منظمة «أوبك» والأسعار العالميّة للنفط: إلى أين؟
إلى جانب بعض العوامل المؤثرة في الطلب العالمي على النفط، خصوصاً اقتصاد الصين، يعزى سبب أساسي لتراجع أسعار النفط إلى قرار «أوبك» الحفاظ على حصص الإنتاج العائدة لها وعدم تخفيضها الإنتاج بهدف إرجاع سعر النفط إلى ما فوق 100 دولار للبرميل، تاركة مسألة الأسعار للسوق العالمية واتجاهات العرض والطلب.
ومن شأن هذه السياسة لو استمرت، تحديد مستقبل «أوبك» وحتى صناعة النفط العالمية. وهذه السياسة تتعارض جوهرياً مع السياسة القديمة التي دأبت عليها المنظمة عبر ثلاثة عقود من الزمن والخاصة بتحديد إنتاجها بما يحقق استقرار الأسعار الذي تقرره بالدرجة الأولى الأوضاع المالية للدول الأعضاء في المنظمة.
ولتحقيق ذلك، لجأت المنظمة إلى اتباع نظام الكوتا الذي يحدّد إنتاجها بسقف لا يجوز تخطيه. ولتحديد ذلك السقف، يصار أولاً إلى تقدير حجم الطلب العالمي للنفط. ثم يُحسَم إنتاج النفط خارج المنظمة، والمتبقي يكون من حصة «أوبك». وهذا يعني كلما زاد إنتاج النفط خارج المنظمة يقل الطلب على حصة «أوبك» في السوق.
واتبعت المنظمة هذا النظام منذ العام 1983، حين كان الضغط على الأسعار قوياً بسبب هبوط الطلب العالمي. وما يؤدي إليه هذا النظام هو إعطاء منتجي النفط خارج المنظمة الأولوية في التسويق على حساب «أوبك»، ما يتعارض والمنطق الاقتصادي الذي يعطي الأولوية إلى المنتج الأقل كلفة أي «أوبك»، باعتبارها المنتج المتمّم على الصعيد العالمي.
ووضع النظام سقفاً لإنتاج السعودية يبلغ خمسة ملايين برميل يومياً. وأدى هذا النظام إلى إلقاء عبء استقرار الأسعار على المنظمة وحصتها في الإنتاج، فوصل إنتاج السعودية في صيف 1986 إلى 2.5 مليون برميل يومياً، ما هدد بالتقصير في تلبية الطلب الداخلي، وحدا بوزير النفط السعودي آنذاك أحمد زكي يماني، إلى التمرد على ذلك النظام وفتح إنتاج النفط السعودي على الأسواق العالمية، ما أدى إلى انهيار الأسعار فوصل سعر البرميل إلى ستة دولارات تقريباً مقابل زيادة كبيرة في إنتاج النفط السعودي.
وتماشى قرار السعودية آنذاك مع المنطق الاقتصادي السليم. غير أن الواقع السياسي يجعله غير قابل للتطبيق، إذ أدى إلى انخفاض سعر الإنتاج في الولايات المتحدة، فاضطر المنتجون في ولاية تكساس إلى إغلاق الآبار وحدثت أزمة اقتصادية، ما حدا بنائب رئيس الولايات المتحدة آنذاك جورج بوش الأب، إلى السفر إلى السعودية ومطالبتها بخفض الإنتاج ورفع السعر إلى 18 دولاراً للبرميل. وما لبث اليماني أن تنحّى.
وأحدث انهيار السعر أزمة كبيرة داخل المنظمة أثرت سلباً في الأوضاع العالمية. غير أن الآثار المترتبة على ذلك القرار كانت محدودة في حينه، لأن حجم الإنتاج للبلدان خارج المنظمة كان محدوداً قبل الزيادات الكبيرة التي حدثت في السنوات اللاحقة، ما أثر تأثيراً بالغاً في حصة «أوبك» الإنتاجية، إذ حدثت زيادات كبيرة جداً في إنتاج النفط في مناطق متعددة من العالم، بسبب سياسات «أوبك» السعرية، فزاد النفط خارج الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق بنحو ثمانية ملايين برميل يومياً عام 1975، ثم بنحو 17 مليوناً عام 1985، و23 مليوناً عام 2005. وزادت كمية النفط الجديدة في البرازيل والهند وماليزيا وعُمان وغيرها من 3.3 مليون عام 1975 إلى 7.5 مليون عام 1985. ووصلت الزيادات إلى 10 ملايين برميل عام 2005 (كتاب المؤلف «النفط بين السياسات والأوهام» صفحة 213 – 214).
كانت المنظمة تسعى إلى تحقيق أكبر ربح ممكن من الإيرادات المالية في أمد قصير، بغض النظر عن ردود الأفعال لتلك السياسة في السوق واتجاهات الاستثمار في المناطق ذات الكلفة العالية كبحر الشمال، والتي ما كانت لتنمو من دون الأسعار العالية المترتبة على سياسة «أوبك». وأوضحت سكرتارية «أوبك» أخيراً، أن إنتاج النفط خارج المنظمة زاد خلال السنوات العشر الماضية بأكثر من ستة ملايين برميل يومياً، فيما لم يزد إنتاج نفط المنظمة خلال تلك الفترة.
والسؤال المهم اليوم يتعلّق بمدى إمكانية الاستمرار في السياسة الجديدة لـ «أوبك» وتأثيرها في أسعار النفط في العالم، وهل أن عوامل السوق من شأنها إحداث التوازن المؤدي إلى إيقاف التدهور في أسعار السوق وإمكانية زيادتها إلى مستويات مقبولة.
داخل المنظمة اليوم، آراء تشير إلى إمكانية تحقيق ذلك، لأن من شأن هبوط الأسعار أن يؤدي إلى انسحاب المنتجين خارج «أوبك» من ذوي الكلفة العالية بسبب الخسارة الناتجة من السعر الجديد، ناهيك عن عدم الحصول على الأرباح لتغطية الكلفة الكبيرة. ومن ناحية ثانية، ثمة قول بأن الزيادة في الطلب العالمي من شأنها امتصاص الوفرة الحالية، ما يؤدي إلى استقرار الأسعار بمرور الزمن.
تشير طبيعة صناعة النفط وتاريخها إلى عدم تحقيق ذلك، لأن سياسة «أوبك» الجديدة بحماية حصتها في السوق لا تخصّها وحدها، وإنما تخصّ المنتجين بما يؤدي إلى مزاحمة شديدة يحاول فيها كل طرف الاحتفاظ بحصته والدفاع عنها ما دام السعر عند مستواه المتدني يحقق لهم من الدخل ما يكفي لمواجهة الكلفة المتدنية وليس كامل الكلفة، من دون اعتبار للكلفة الرأسمالية العالية للسعة الإنتاجية.
وتتطلب ضخامة فائض المعروض في السوق خفض الإنتاج، فقد يبلغ إنتاج «أوبك» الآن زيادة بواقع مليون ونصف مليون برميل يومياً، لو طبقت أحكام نظام الكوتا، فيما تجري الآن زيادة في الإنتاج لبعض أعضاء المنظمة كالعراق وحتى السعودية. وهذا الفائض سيزداد بعودة النفط الإيراني إلى الأسواق بما لا يقل عن مليون برميل نتيجة الاتفاق النووي، واستناداً إلى تصريحات المسؤولين سيجري إنتاج النفط الإيراني بكامل السعة وبأي سعر. وهناك زيادة كبيرة في النفط الليبي قد تصل إلى مليون برميل، إثر تحسّن الوضع السياسي في البلاد.
في السياسات السابقة لـ «أوبك»، كانت المنظمة هي التي تخفّض إنتاجها خدمة للمنتجين الآخرين. وباتباع السياسة الجديدة، فإن التخفيض يجب أن يحصل بإشراك المنتجين الآخرين. أما ما يقال عن مزاحمة بنفط الخليج المنخفض الكلفة مع النفط الصخري العالي الكلفة ستؤدي إلى تنحّي الأخير، فهو يأتي من باب الحدس، فليس ثمة ما هو حقيقي، ليس فقط للأسباب الواردة سابقاً وإنما أيضاً لاعتبارات جيوسياسية.
منذ الصدمات السعرية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كان هدف السياسة الأميركية المعلن تطوير مصادر الطاقة المحلية وتقليص الاعتماد على النفط المستورد، وبدأ ذلك الهدف يعطي ثماره اليوم بتطوير النفط الصخري بفضل سياسة «أوبك» السعرية التـــي حققـــت لشركات النفط أرباحاً كبـيرة، ما جعل الاستثمار في النفط ذي الكلفة العالية جداً، مربحاً.
أما الحديث عن إمكانية نمو الطلب العالمي للنفط بما يمكن امتصاص التخمة الكبيرة في السوق، فلا يمكن تبريره في الواقع. فالزيادة في الطلب في العام الماضي كانت في حدود مليون ومئتي ألف برميل يومياً، والجزء الأكبر في هذه الزيادة جاء من النمو في استهلاك الطاقة في آسيا، خصوصاً الصين. لذا ليس من المتوقع أن تكون الزيادة في العام المقبل أكثر من ذلك، بل يمكن أن تكون أقل.
إن التطورات التكنولوجية منذ السنوات الأخيرة من القرن الماضي، أدت إلى انخفاض كبير في استهلاك النفط في أوروبا والولايات المتحدة، وانخفاض شديد في حصة النفط من الدخل القومي، ما يعني أن حجم استهلاك النفط لتحقيق زيادة في الدخل القومي بدأ في الهبوط المستمر، وأن الزيادة في الاستهلاك تنحصر في قطاع النقل، وهذا القطاع في تطور مستمر بفضل التقدم التكنولوجي بما فيه السيارات الكهربائية. ويتضح أن الضغط على أسعار النفط سيستمر في حالة عدم تخفيض الإنتاج بما لا يقل عن مليوني برميل يومياً، وأن القول بأن عوامل السوق يمكن أن تؤدي إلى استقرار الأسعار لا يستند إلى أساس اقتصادي.
هناك أخيراً مشكلة كبيرة في عملية اتخاذ القرار داخل المنظمة. فدول الخليج، خصوصاً السعودية والكويت والإمارات وقطر، لها من الاحتياط المالي ما يجعلها قادرة على التعايش مع الوضع الجديد مدة سنتين أو ثلاث، بينما العراق وإيران وفنزويلا، وهي بلدان مؤسسة للمنظمة، لا تستطيع التعايش مع السياسة الجديدة لـ «أوبك» لفترة طويلة. ونظراً إلى الوضع الحالي، يُستبعَد أن يصار إلى حل قريب لتغيير سياسة «أوبك» للوصول إلى أسعار أعلى.
صحيفة الحياة اللندنية