من الفائِز في حربِ التّصريحات بين ترامب والجِنرال بأول التي فضَحَت الحرب الأمريكيّة الكارثيّة على العِراق؟ وكيف كشفت عُمق الانقِسام وبداية تمرّد في الحزب الجمهوري؟ ولماذا يتساوون في الإجرام في نظَرِنا؟

 

عندما يختلف اللّصوص تظهر حقيقة السّرقة والمَسروقات، هذا القول يتطبّق على حرب التّصريحات المُستَعِرة الجارية حاليًّا بين الرئيس دونالد ترامب ووزير الخارجيّة الأسبق كولن بأول، وتَعكِس حالة الانقِسام الحادّة في المُجتمع الأمريكي ونُخبته السياسيّة في تزامنٍ لافتٍ مع اتّساع دائرة الاحتِجاجات مُنذ مقتل الشّاب الأمريكيّ الأسود جورج فلويد خنقًا تحت رُكبَة أحد رجال الشّرطة العُنصريين قبل عدّة أيّام.

المُلاسنة بدأت عندما هاجم كولن بأول، وهو أوّل أمريكي من أصولٍ إفريقيّةٍ يتولّى منصب وزير الخارجيّة في زمن الرئيس بوش الابن، الرئيس ترامب ووصفه بأنّه كاذبٌ مُحترفٌ، خرج عن بُنود الدستور الأمريكيّ وأحكامه بعُنصريّته وتقسيمه لأمريكا، ولكُل هذه الأسباب سيُعطِي صوته، وهو الجُمهوري، للمرشّح الدّيمقراطي جو بايدن في الانتخابات المُقبلة، فردّ ترامب باتّهامه (بأول) بأنّه كان سببًا رئيسًا في توريط بلاده في حُروب الشّرق الأوسط الكارثيّة.

ترامب مارس الكذب مرّةً أُخرى، عندما ألقى بمسؤوليّة حرب العِراق على كاهل بأول، وتقريره الذي قرأه أمام مجلس الأمن في شباط (فبراير) عام 2003، وتحدّث فيه بـ”الوثائق” عن أسلحة الدّمار الشّامل العِراقيّة، وهو التّقرير الذي اعتذر عنه لاحقًا، وأكّد أنّه تعرّض لخديعةِ أجهزة الاستِخبارات الأمريكيّة وتضليلها عندما قدّمت له معلومات مغلوطة.

نقول إنّه مارس الكذب لأنّه ألقى باللّوم على بأول، ولم يجرؤ على تقديم أيّ اتّهام لرئيسه جورج بوش الابن، والدّولة الأمريكيّة العميقة التي خطّطت للحرب، وفبركت أُكذوبة أسلحة الدّمار الشّامل، واستَخدمتها ذريعة لغزو العِراق واحتِلاله، والإطاحة بنظام الرئيس العِراقي الأسبق صدام حسين، تمامًا مثلما استخدمت أُكذوبة الديكتاتوريّة للإطاحة بنِظام العقيد القذافي في ليبيا.

بأول كان مُجرمًا، ورَضِي بهذا الدّور التّحريضي والتّبريري للحرب على العِراق، مثلما قَبِل باستِغلاله بسبب لونه للقِيام به، وتبرير هذه الحرب، وقتل أكثر مِن مِليون إنسان عِراقي بريء في خدمةٍ لدولة الاحتِلال الإسرائيلي، والحِفاظ على قوّتها وتفوّقها العسكريّ الإقليميّ، ومنع العِراق من تحقيق التّوازن الاستراتيجيّ معها، بامتِلاك أسلحة نوويّة وبيولوجيّة وكيماويّة.

مِن الصّعب علينا، نحنُ الذين عِشنا هذه الحرب على العِراق، وتابعنا تفاصيلها، وفُصولها، لحظةً بلحظةٍ، وكنّا من بين المُشاركين في الاحتِجاجات ضدّها والمُشكِّكين بالرّواية المُفَبركة عن أسلحة الدّمار الشّامل، مِن الصّعب علينا أن ننسى منظر بأول وهو يَعرِض تقريره المُدعّم بصُورٍ مُزوّرةٍ عن معاملٍ كيماويّةٍ وبيولوجيّةٍ عِراقيّةٍ متحرّكةٍ، وشهادة عميل عِراقي جرى تجنيده وتوظيفه من أجهزة المُخابرات الأمريكيّة (اسمه رافد الجنابي) مُقابل تأشيرة هجرة إلى ألمانيا، وانتهى به الحال نادِلًا في محل لبيع الهامبرغر (بيرغر كينغ) في فرانكفورت، مِثل جميع العُملاء من أمثاله، وخاصّةً العميل أنطوان لحد الذي كرّمته إسرائيل لعمالته بالقذف بِه إلى الشّارع، والتعيّش من فتح مطعم للفلافل في تل أبيب.

وإذا كان بأول يتحمّل مسؤوليّة حرب العِراق الكارثيّة، فإنّ الرئيس ترامب لعب دورًا كبيرًا في تدمير سورية، واعترف علنًا بأنّ إدارته ضخّت 90 مِليار دولار في مُحاولةٍ للإطاحة بالنّظام فيها، وأيّد ضمّ القُدس وهضبة الجولان، وحاوَل ويُحاول تصفية القضيّة الفِلسطينيّة مِن خِلال مشروع صفقة القرن، وضمّ المُستوطنات وغور الأردن، فكُلّهم مُجرمون.

ترامب العُنصري المُتهوّر لا يُواجه ثورةً في الشّارع الأمريكيّ احتِجاجًا على سِياساته، وإنّما أيضًا في الحزب الجمهوري الذي يُمثّله، فها هو بأول ينضم إلى قائمةٍ مِن جِنرالات الجيش الأمريكيّ السّابقين الذي يرفعون الكارت الأحمر في وجهه، ويتّهمونه بمُحاولة تدمير أمريكا وتفتيتها، وكان آخِرهم جيمس ماتيس، وزير الدّفاع السّابق في حُكومته، وهُناك تقارير إخباريّة تُؤكِّد أنّ الرئيس الأسبق جورج بوش الابن لن يُعطِي صوته لترامب في الانتخابات الرئاسيّة وإنّما لمُنافسه الدّيمقراطي جو بايدن، وهي تقارير إذا تأكّدت ستكون طعنةً مسمومةً في الظّهر لترامب وإدارته، وربّما تُقَلِّل مِن فُرص فوزه لولايةٍ ثانية.

المسألة لم تَعُد مسألة فوز ترامب أو خسارته الانتِخابات المُقبلة، وإنّما مسألة حالة الانهِيار التي بدَأت بمقتل الشّاب فلويد، وكشفت عُمق العُنصريّة في الدّولة الأمريكيّة العميقة، وباتت تُذَكِّر بمثيلتها التي أدّت إلى انهِيار الاتّحاد السّوفييتي وتفكّكه.. واللّهُمّ إنّا مِن الشّامتين.

صحيفة رأي اليوم الألكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى