من (الكاتب العاجز)، إلى (الكاتب الفاعل): دع الكاتب يعمل، دعه يمر! (2)
خاص باب الشرق
اتفق السوريون على الهوية الوطنية السورية، ودافعوا عنها باستمرار، وبشكل خاص إبان الاحتلال الفرنسي ومع فترة استقلال سورية. وقد ذهبت الأفكار السياسية باتجاه البحث عن معتقدات أبعد من الهوية الوطنية، فإذا بنا أمام معتقدات سياسية قومية، وأخرى أممية، وثالثة دينية، وكان ثمة تعبيرات حزبية معروفة لهذه المعتقدات..
وحقيقة الأمر، كان واضحاً على أن أي خرق للوطنية السورية من خلال تلك التوجهات السياسية، أو أي خرق لحق الآخر في الوجود يجعلنا أمام (الصراع)، وحدث ذلك في البرلمان، وبين الأحزاب، وفي كل مرة يجري فيها اتخاذ موقف يتعلق بالوطن، وتبلور هذا الصراع بشكل واضح في الانقلابات السياسية التي وقعت بتدخلات خارجية.
اشتغل الصحفي البريطاني باتريك سيل على كتابين مهمين حول هذا الموضوع، بدأ عنوان كل منهما بعبارة مفتاحية هي (الصراع) ففي الأول نقرأ (الصراع على سورية) وفي الثاني نقرأ (الصراع على الشرق الأوسط)، وبين هذين الكتابين نحو أربعين عاما.
وفي التدقيق في هذا الخط وجوهر مواقف القوى السياسية الموجودة، نكتشف أن جوهر فكرة (الصراع) هو (الخارج)، وهذا يعني أن سورية هي في دائرة الاستهداف، ثم إن سورية لا يُراد لها أن تكون قوية في العمق الجيو سياسي لكي تسهل السيطرة عليها!
هذه الخلاصة هي أفضل تلخيص لمسألة الهوية الوطنية، واليوم تجري الأحداث على هذه الأرضية، ويلاحظ أي باحث ومتابع أن البلاد أمام (استهداف خارجي) يسعى إلى (استهداف تفكيكي من الداخل) إضافة إلى السعي إلى (استهداف في عمق الدور السوري وقوته)، ولا رد على ذلك إلا بالتمسك بالهوية (الوطنية السورية) وتعميق قوتها، بأوسع حوار وتحالف بين (كل الأفكار السياسية التي ظهرت وتظهر وبحثت وتبحث عن معتقدات أبعد من الهوية الوطنية)، أي أن الهوية السورية الفعلية هي التي كافح الجميع من أجلها (هوية الاستقلال)!
هنا يبرز دور المثقف والكاتب، ويبرز دور مؤسساته وأدوات الترويج له ولأفكاره التي تؤسس لعقل جديد في الأمة، يتضافر مع السياسي ويتفاعل معه، المثقف والكاتب هنا هو صاحب أفكار ومعتقدات وإبداع يحمل رسالة حتمية تبدأ بالعلاقات الإنسانية، وتنتهي بالصراع الاجتماعي والسياسي، وهذه العملية هي من صلب عملية التطور في المجتمع، بل وتعكس صورة هذا التطور.
والكاتب عبارة عن أجيال، وأهمها جيل الشباب الذي لايتم الشغل عليه لزجه في العملية الثقافية وإعطائه فرص حقيقية للظهور، وكُثرٌ هم المبدعون الشباب الذين يبحثون عن فرص لتقديم أنفسهم ولكن دون أن أمل .
لذلك من أهم خطوات تحصين المثقف أن ندعه يعمل ويمر (مفهوم عالمي اقتصادي عن حركة رأس المال)، بكل أجياله واتجاهاته، ليشتغل وفق الهوية الوطنية التي لايمكن الاختلاف عليها، وبعبارة أدق، نحن بحاجة إلى (المثقف الوطني) القادر على التفكير بحرية وإبداع في ظروف ديمقراطية وأجواء رحبة آمنة، والاطمئنان إلى حياته وأسرته ومعيشته، وأن نوفر له هذه الظروف.
في الحقبة الأخيرة، انحرف مثقفون وكتاب كثيرون عن هويتهم التي تبنوها، لقد دخل هؤلاء في أتون الصراع على حساب هذا (الثابت الوطني)، الذي عُهِدَ عن المثقف السوري، واكتفى بعضهم بالولاء لأفكاره أو للجهات الداعمة التي احتضنته، أو تلك التي فتحت منصاتها له في الخارج، فخسر أكبر مصداقية له إذ انحسر الجمهور عنه !
لاحظ المثقفون والكتاب ذلك بشكل متباين، وعندما جرى الحديث عن (الاستثمار الثقافي)، وهو موضوع مهم في بنى الدولة الحديثة، تباينت الأفكار، ولم ينتبه المتحدثون إلى أن الاستثمار هو وظيفي اجتماعي تنويري ..
وفي حوارات جمعية عين الفنون قبل فترة، لم ينتبه المتحدثون إلى أن هذه القطيعة بين (المثقف/الكاتب) وبين (الجمهور) هي قطيعة مستشرية، وإلى أن هناك انحرافاً خطيرا قد وقع، أو على الأقل لم يتحدثوا عنه بوضوح.
وعندما أشرت إليه في مداخلة قصيرة، أهمل الإعلام ماقلته وكأني لست موجوداً، كذلك أهمل المتحدثون الطرح الذي قلته وهو أن أهم خطوة هي تحديد ما الذي تريده البلاد، وقلت إن الرأي العام ينكفئ عن مفاهيم المثقف العضوي والقومي والديني ويتمسك بالوطني. وقلت أيضا إن المثقف الديني هو الوحيد الذي يشتغل على مشاريعه فيما تراجعت المشاريع الأخرى التي عرفتها البلاد!
قد يفتح هذا التفسير، على (خلاف) في الرأي بين الكتاب والمثقفين، ومن هنا يأتي دور النقطة الثانية أي أن اتحاد الكتاب العرب معني بإحداث (منصات للحوار)، فلماذا تقيمه (عين الفنون ) ، وهي مشكورة، ولايشارك هو فيه أو لايقيم مثله على الأقل ؟!
وينبغي بحكم ضرورات المرحلة أن يكون الحوار (حراً ومسؤولاً ولا يستند إلى بروباغندا وشعارات) فدون الحوار لا يمكن جعل الخلاف بنّاءً.
في اتحاد الكتاب العرب، لا يجري أي حوار، ولا أي منصة للحوار، هناك محاولات ولكن لا تكفي، وعندما يجري في أروقة المؤسسات الثقافيةـ فالطريقة التي تجري هي من نوع فضائحي نميمي تصيدي تنافسي على المنافع والمناصب، وقد غابت وجهات النظر المتعلقة بتطوير أداء الاتحاد والمنصات التي تجعل الآراء أكثر تفاعلا وأكثر مسؤولية، وربما هناك خوف من ذلك ، ولا أعرف الخوف ممن إذا كانت القيادة السياسية تدعو لعمل جدي ومشروع ثقافي يناسب البلاد .
منصات الحوار مفقودة في اتحاد الكتاب العرب، فكل مايجري روتيني/بيروقراطي يلامس الأفكار ولا يجرؤ على طرحها، يهرب من الاستراتيجي إلى الثانوي والإداري والمالي، وبالنسبة للمشروع الثقافي يا دار مادخلك شر.
كان يمكن للإعلام أن يقوم بهذه المهمة، فيفعل الحوار ويرتقي إلى المستوى الذي ينبغي أن تكون عليه مهماته، لكن العلاقة بين الكتاب والإعلام رديئة، وربما سرقتها نجومية الفنان وأزمة المثقف، ولذلك خسر المثقف والكاتب منصات الإعلام الهامة التي يفترض أن يسعى اتحاد الكتاب إليها للوصول إلى الناس وترويج إبداعهم، ولا يمكن وصف (برنامج تلفزيوني أو إذاعي ثقافي، خائف في مضمونه، روتيني الإعداد والتقديم والإخراج) بأنه منصة، وحتى لا يمكن وصفه بمنصة ترويج لكتب عادية، فلا يوجد أي سوري يقرأ كتاباً نتيجة برنامج تلفزيوني ينأى عن المهم والخطير في النشر.
المطلوب تعميق العلاقة بين الكتاب والإعلام وتصحيح الدور الحقيقي للنوافذ الموجودة رغم قلتها، ولكي نكون واضحين العلاقة بينهما متوترة والإعلام مرتاح من المثقف ومشكاله وآرائه منذ عقود إلى درجة أن رئيس الاتحاد (الأسبق) رفض أي عرض قدمه الإعلام للحوار معه أو حتى تصويره، بل وأوصى أن لا يقوم الإعلام بنعيه فيما لو توفي (!) ، وعندما طرحت الفكرة على الإعلام قال لي مسؤول إعلامي : أريح !
وهناك نقطة خطيرة جداً، فالدولة أنشأت ما يمكن تسميته (المنصات الثقافية العامة)، وهي منصات ضخمة تديرها وزارة الثقافة، وتكلفت الدولة عليها مليارات الليرات وربما مئات المليارات، ولم تستثمر إلا في التظاهرات الاحتفالية الرسمية، ولم تقدم إلا الرديء أو على الأقل الذي لا يقول شيئاً فهي لاتحترم الكتّاب، فكيف تحترمه في وقت تقدم له ألف ليرة على مشاركته في النشاط الواحد (ثمن علبة سكائر الآن)؟!
وربما يجهل القائمون عليها طبيعة المهمة المنوطة بهم بل ويجهلون ملامح الحركة الثقافية التي يديرون أهم مؤسساتها، ويكتفون بالتصريحات وباحتفاليات توحي أن ثمة ثقافة وحركة ثقافية نشطة.
فما هي الحلول المطلوبة ؟!
( يتبع الحلقة الثالثة )
باب الشرق