من المذكرات : عندما نشرعمر حمدي اسمي في غلاف..
من المذكرات:
لا أحد من صحفي الجيل الجديد يشعر بتلك الأحاسيس التي يشعر بها الصحفي أيام زمان وهو يتابع عملية النشر، فالطبخة التي تنتجها هذه الصناعة من خلطة الورق والحبر والكلمة والصورة، طبخة تفتح الشهية، وتنمي الروح وتجعلها جاهزة للتحليق دائماً.
عام 1977، قررت المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية ، إطلاق المجلة الجيولوجية السورية، وكانت توجهات الدكتور حسين ابراهيم المدير العام لتلك المؤسسة طموحة تسعى دائما لتقديم الجديد والهام، وشكل هيئة تحرير من قامات علمية ، ولجنة لإصدار المجلة، وكان الصديق الشاعر رضا أسعد مكلفا بهذه اللجنة فاشتغلت معه، باعتباري موظفاً حصلت للتو على الشهادة الثانوية وسجلت في قسم الجيولوجيا في جامعة دمشق .
ودخلت في عملية النشر، وكان رضا دؤوبا في نشاطه لإصدار المجلة في زمن قياسي لتشكل تلك الإضافة الهامة على صعيد المجلات المتخصصة، وكما هو معروف تبدأ العملية في جمع المقالات وتنضيدها وتدقيقها، ثم تقديمها لمخرج المجلة ليقوم بإضفاء اللمسات الأخيرة عليها لتصبح في متناول القراء.
تم تكليف الفنان العالمي عمر حمدي (مالفا) بهذه المهمة، ولم يكن قد شق طريق العالمية بعد، فعرفني رضا أسعد عليه، وشرعت بنقل المقالات والملفات والمخططات والصور من المطبعة إلى عمر، وأنا أرقب تلك العملية السحرية بشغف كبير.
أنزل إلى المطبعة، وأتفرج على النصوص وهي تنضد، ثم أرقب طباعة البروفات بمتعة كبيرة، وعندما تنجز كان دوري ينحصر بحملها بحرص وعناية إلى بيته في دمر على ضفة نهر بردى، ثم أجلس معه وأتابع أنامله السحرية، وهو يصنع صفحات المجلة واحدة بعد الأخرى.
كان صالون البيت كبيراً، وفي زواياه ثمة لوحات جاهزة، ولوحات يجري التأسيس لرسمها، لكن (عمر) كان يتوقف عن الرسم، ويطلب من زوجته إعداد الشاي، ليبدأ هو بقص المادة المنضدة وإلصاق أوراقها على الماكيت، وتنسيق الصور والجداول وحساب حجمها لإضافته إلى النصوص.
وبين دينامية رضا أسعد ، كمهني خبير في عملية الإصدار وروحه المرحة الرائعة والطموحة، وبين السحر الذي تصنعه أصابع عمر حمدي على التصاميم، كانت طموحاتي تكبر، إلى درجة أنني فكرت بكتابة بحث علمي، ولم أكن قد تعرفت بعد على الفرق بين (الجيولوجيا) ، و(الطوبوغرافيا)..
في آخر ليلة قبل أن تقوم المطبعة بتحميض الأفلام اللازمة للبلاكات، عاد عمر حمدي إلى الصفحة الأولى ، وتحتوي تلك الصفحة على أسماء هيئة التحرير ولجنة الإصدار واسم مخرج المجلة، راقبت مايقوم به بهدوء شديد ، فهذه العملية تشبه اللمسة الأخيرة في صناعة تحفة فنية، فإذا به ينظر في وجهي الفرح بما يجري، ويعود فينظر إلى أسماء الصفحة الأولى ، ثم يقول، وكان الوقت قد تأخر ليلاً :
ــ لماذا لم ينشروا اسمك !
وقرر إضافة اسمي، إلى أسماء الغلاف الأول لمجلة للجيولوجيا في سورية، وصدر العدد، فظهرت احتجاجات كثيرة على ذلك، فحماني رضا، ولم يهتم عمر للاحتجاجات، وكان ذلك يشبه محطة كبيرة في حياتي، حيث نشر اسمي ليتحول هذا النشر إلى أول تجربة مع الصحافة.
شغل عمر حمدي النقد التشكيلي برسوماته عندما هاجر إلى أوروبا، وانتشرت لوحاته في متاحف العالم ، وعندما توفي عام 2015 كتبت عنه، وأنا أشعر بفخر كبير أنني أصبحت كاتباً تعرفت على فنان عالمي وأنا أصنع طموحاتي الأولى..
وبعد سنوات التقيت مع الشاعر رضا أسعد بعد أربعين عاما على هجرته إلى أميركا، فاستعدت تلك المشاعر، لأن حضن رضا أسعد الدافئ جعل تلك البذرة من موهبة الكتابة تنمو في روحي في كل مرة كنت أقرأ فيها ديوانه الأول : لا أخافكم لأني أحبكم!
ملاحظة : أرجو ممن يجد حقيقية غائبة أو ملاحظة ضرورية إرسالها إلي في الحلقات القادمة لأتعامل معها بحرص قبل جمع المذكرات ونشرها في كتاب.