من بعد ” أُذنيك” حضرة القاضي

 

لكم كنت أحب أن ألتهم في طفولتي ” أذن القاضي” بشراهة تشبه التشفي، دون أن أكلّف نفسي السؤال عن سر هذه التسمية الغريبة، إلى أن بادرت أمي بالإجابة عن سؤال لم أطرحه، وعلمت منها أن هذه الحلويات التي تُصنع من عجين مكوّن من الطحين والماء، يُقطع علي شكل شريط طويل يطوى ليأخذ شكل أذن يتم قليها في الزيت وترش بالسمسم، تعود الحكاية الشعبية في تسميتها الطريفة إلى أن القاضي عادة ما يُطلب منه أن تكون له آذان كبيرة ومصغية لسماع الخصوم، ومن هنا جاء وجه الشبه بين كبر حجم أذن القاضي والأذن المقلية.

أمّا عن ” كعك الورقة” المعطر بزهر النسرين المقطر، والذي تفاخر به مدينة زغوان، ذات الطابع الأندلسي، فقد أدخلته النساء الموريسكيات إلي تونس، بداية القرن السادس عشر، بطريقة طريفة وماكرة، فعوض أن تُحشى هذه الحلوي باللوز، تعمدت النساء آنذاك، وضع مصوغاتهن داخلها لتهريبها بعيدا عن أعين الأسبان.

يكاد المرء يجزم أن المثاقفة عبر الأطباق، أسهل انتشارا وتأثيرا من الكتب.. إنها مثل العطور، لا توقفها شرطة حدود، ولا تمنعها سلطات إلا فيما شذّ وندر، مثلما يُقال عن تحريم الحاكم بأمر الله، في العصر الفاطمي لطبخة الملوخية عن المصريين وإباحتها لنفسه.. وهاهي الملوخية اليوم تتصدر موائد أرض الكنانة، و”بالأرانب كمان”. أما عن حلوى الكنافة التي أفرد لها السيوطي رسالة تحت عنوان “منهل اللطائف في الكنافة والقطايف” فقد صُنعت لمعاوية بن أبي سفيان، الذي عُرف عنه الجوع في الصيام.   لكل طعم حكاية آسرة، حتى وإن كانت على شكل غصّة في القلوب، لكن غرابة التسمية وطرافتها تزيدها نكهة، وتؤرخ لأحداث وأسماء وأمكنة، حفظتها ودوّنتها الألسنة والأنوف قبل الأقلام.. لتشي بمخيال شعبي يجعل من المطابخ متاحف ومن الموائد صحائف، والأكل ثقافة تتنافس وتتباهى بها الشعوب.

نظرة سريعة وفاحصة إلى أسماء الأطباق والحلويات، كفيلة بفهم عقد الشعوب والاطلاع على نوازعها الخبيثة والحميدة على حد سواء، فلقد كان الأسلاف يعبرون عن أهوائهم وأمزجتهم من خلف الطناجر والأفران، وها نحن اليوم ” نلتهم ونجترّ “آراءهم المطبخية”  دون تمحيص.. وكثيرا ما يُتهم المطورون في الأطباق بالتحريف وعدم احترام الأصول.. للمطبخ سلفيوه أيضا.

تداعيات كتبتها من وحي طعم ” أذن القاضي” تحت أسناني، وبعد سنين طويلة من غياب أمي التي كانت تمدني بقطعة كبيرة ومحترمة منها.. صحيح، لماذا صغرت “أذن القاضي” وغلا ثمنها إلى هذا الحد؟

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى