
ماحدث في سورية يتقاطع إلى حدٍّ كبير مع ماحدث في رواندا قبل ثلاثة عقود تقريباً، سواء فيما يتعلّق بعدد الضحايا أو تعويم الخطاب العرقيّ والطائفيّ وخاصّةً بين “الهوتو” و”التوتسي”، وفيما نجح الراونديون بجعل عاصمتهم الأولى بالنظافة والتطوّر الاقتصاديّ على مستوى قارّتهم من خلال الأسس والثوابت التي تمّ التوافق عليها وتطبيقها، مازال السوريّون حتى اليوم عاجزين عن التعالي عن الجراح والتأسيس لخطابٍ وطنيٍّ جامعٍ كما فعل الراونديّون قبل أكثر من ثلاثين عاماً الأمر الذي جعل هذه البلد مضرب المثل في الوعي والحكمة وسرعة الخروج من المستنقع الدمويّ الطائفيّ والعرقيّ.
ومع ذلك لا يمكن إنكار أنّ التجربة السوريّة ما تزال في بداياتها، فما مضى على توقّف الاقتتال سوى أشهر قليلة، وما تزال الجراح مفتوحة، والذاكرة مثقلة بما لم يُهضم بعد. بينما احتاج الروانديون إلى أكثر من عقدٍ ونصف من العمل الصبور والممنهج قبل أن تثمر جهودهم استقراراً فعليّاً وثقةً مجتمعيّة. لذلك فالمقارنة هنا لا تهدف إلى إدانة السوريّين أو تقريعهم، بل إلى الإشارة إلى الطريق الممكن، وإلى ما يمكن أن يتحقّق حين تتوافر الإرادة الوطنيّة والإدارة الحكيمة للمصالحة. فالمسافة التي قطعتها رواندا لا تُقاس بالزمن فحسب، بل بنوعيّة القرارات التي اتُّخذت لبناء وعيٍ جديدٍ يتجاوز القبيلة والطائفة إلى الإنسان والوطن.
غير أنّ خصوصيّة الحالة السوريّة تمنحها فرصة مختلفة، فحربٌ امتدّت أربعة عشر عامًا كفيلة بأن تولّد وعيًا أعمق بضرورة المصالحة. وإذا كانت رواندا احتاجت إلى أكثر من عقدٍ ونصف بعد مئة يوم من الإبادة، فليس بالضرورة أن ينتظر السوريّون المدّة ذاتها، ما داموا قادرين على تحويل الألم إلى وعيٍ وإرادةٍ للحياة.
وفيما ينجح السياسيّ أحياناً، بالقفز فوق الحواجز والجدران المكهربة محاولاً تسجيل نقاطٍ إيجابيّةٍ و تحقيق مزيدٍ من المكاسب من خلال اللعب على أوتار السياسة وتناقضاتها، يغرق المثقّف، الفنان، والإعلاميّ في مستنقع البؤس والتناحر والتخندق، وسط حالةٍ من التكفير والتفسيق والتخوين، مايعني أنّنا أمام حالةٍ من التفخيخ والتلغيم وصولاً إلى تفجير المشهد الثقافيّ من خلال الاتهامات المتبادلة بين الفرقاء من أبناء البلد الواحد.
الحاجة اليوم ماسّة إلى خطابٍ وطنيٍّ جامعٍ يقوم على إعلاء المصلحة العامّة فوق أيّ مصلحةٍ أخرى، وإلى وعيٍ ثقافيٍّ جديدٍ يعيد تعريف الانتماء على قاعدة المشاركة والعدالة والوعي.
ما أحوجنا إلى قراءة التجربة الروانديّة بهدوءٍ وحكمة، لا لنقلّدها وإنّما لنتعلّم منها كيف يمكن للأمم مهما بلغ نزيفها، أن تنهض حين تُحسن قراءة ماضيها وتؤمن بأن المستقبل ممكن.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة


