من سوريا إلى العراق وبالعكس: عن حروب الطائفية والمذهبية على العروبة
فجأة، ومن خارج التوقع، تهاوت الأنظمة العربية التي كانت تقول بالعلمانية، مبرِّئة ذاتها من التعصّب الديني أو الطائفي. ولعلها قد بالغت في ادعاءاتها تلك لنفي شبهة احتكار السلطة فيها لمجموعات تجتهد في تغطية الانتماء لمذهب محدد بالهوية الحزبية العلمانية («البعث» في سوريا والعراق و «الحزب الاشتراكي» في اليمن الجنوبي في ظل انفصاله عن الشمال).
في المقابل، كانت تركيا، التي تعتمد العلمانية في نظامها السياسي بعد دهور الخلافة الإسلامية، تنتقل، تدريجياً، وفي ظل الحزب الحاكم الآن بقيادة رجب طيب أردوغان، إلى تصدر العودة إلى الإسلام السياسي. هذا قبل الحديث عن التحالفات التي نسجها النظام التركي إقليمياً، وأبرزها في هذا السياق مع أخطر أعداء العرب والمسلمين عموماً: الكيان الإسرائيلي. أما عسكرياً، فقد انتظم في «الحلف الأطلسي»، وإن لم تقبله أوروبا في اتحادها برغم كل التنازلات التي قدّمها.
لقد نزلت دولة أردوغان برئيسها ورئيس حكومتها ونائبه إلى «الميدان» في الأيام الأخيرة، مع مباشرة الحكم في العراق معركة تحرير الموصل، مقررين أن لتركيا الحق في الدفاع عن «أهل السنة» الذين يشكلون الغالبية من أهل هذه المدينة ذات التاريخ العريق، مستذكرين السلطنة العثمانية، بداية، ثم «معاهدة لوزان» التي عُقدت بين دول التحالف الغربي (بريطانيا وفرنسا) وتركيا التي كانت قد تحرّرت من أعباء «السلطنة» وخطاياها، ولكنها دخلت الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا وخرجت منها مهزومة ومثخنة بالجراح.
هكذا، لم يتورّع أردوغان، بعد تنصيب نفسه ولياً لأمر المسلمين السنّة جميعاً عن الإشارة، ضمناً، إلى أن الموصل كانت من «أملاك السلطنة»، فضلاً عن التلويح بمخاطر الهجوم العسكري للجيش العراقي، مفترضاً أنه يستهدف «أهل السنّة» (!) كأنما هذا الجيش وافد من الخارج، أو كأنما أهل الموصل ليسوا طليعة في شعب العراق بل هم «جالية أجنبية» تطلب «حماية دولية» لا يصلح لها إلا تركيا أردوغان.
لم يكتف أردوغان بتركيا لخوض هذه «الحرب»، بل اندفع يستنخي دول الخليج العربي بقيادة السعودية، ضارباً على الوتر المذهبي، قافزاً من فوق حقيقة بسيطة مؤداها أن الذي يحتل الموصل ويقهر أهلها، بل العراقيين جميعاً والسوريين معهم وعرباً سنّة آخرين، هو تنظيم «دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام»، وهو بقيادته و «مجاهديه» جميعاً من «أهل السنة»، وإن كان مشبوهاً في نشأته وأهدافه، بالإضافة إلى أنه من خارج العصر.
خلاصة هذا التقدير الاستراتيجي الخطير لأردوغان أن تحرير الموصل يهدد بالخطر المليار مسلم، تقريباً، بغالبيتهم السنية المطلقة. لكأن أهل السنة في العراق «جالية أجنبية» أو «أقلية» مضطهدة وليسوا بعض أهله وبين أبرز نخبه، وهم كانوا في سدّة الحكم في بغداد لقرن من الزمن إلا قليلاً، فيما كان أهل الشيعة (وهم الأكثر عدداً) مهمّشين. ثم إن الموصل كانت طليعة في العمل القومي.
أما ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق وخلع صدام حسين، في ربيع عام 2003، فقد «هجم» الشيعة على السلطة، بزعم تعويض «دهر الحرمان»، وإن ظلت السلطة «مركبة»، رسمياً، على أساس الشراكة وتقاسم المناصب على قاعدة مذهبية (وعرقية) فتقرر أن يكون رئيس الجمهورية كردياً ـ سنياً (وهو منصب رمزي لكن الهدف منه توكيد الأخوّة العربية ـ الكردية)، ورئيس مجلس النواب سنياً (عربياً)، أما رئيس الحكومة الذي يمتاز بصلاحيات واسعة فهو شيعي، وفي الحكومة يتمثل الجميع، وكذلك في الجيش وقوى الأمن، وإن كان ثمة أرجحية شيعية (ينسبها أهل السلطة إلى الأكثرية العددية).
صحيح أن العراق مرّ بمرحلة انتقالية حرجة، تخللتها أخطاء فادحة ومظاهر طائفية نافرة ومنفّرة، ومصادمات عنصرية (مع الكرد) وطائفية (بين الشيعة والسنة)، لكن الواقع أن تلك المرحلة قد مضت وانقضت تقريباً، لا سيما بعد إسقاط حكومة المالكي ومجيء العبادي إلى السلطة، وانتقلت المشكلة إلى المتطرفين الشيعة الذين يتلطون بدعاوى ظلم الماضي لتغطية عمليات النهب والخروج على القانون بذريعة «التعويض عن دهر الحرمان»! هكذا سقطت شعارات «العلمانية» وكل ما كان يرفعه حزب «البعث» من مبادئ وأهداف أولها المساواة بين المواطنين بغير تمييز بسبب الدين أو الطائفة أو العرق، والاعتراف بحقوق الأقليات.
في المقابل، فإن الحرب في سوريا وعليها قد التهمت، في ما التهمته، شعارات حزب «البعث» الذي يفترض أنه يتولى السلطة، كل السلطة. فاحتلت قوى مختلفة الهويات والهوى مناطق مختلفة في سوريا، رافعة شعارات المنظمات الأكثر تطرفاً من حملة رايات «الجهاد»، مثل «داعش» و «النصرة» وجبهات أخرى تلوذ بتركيا، المتهمة الآن بأنها على صلة بالأكثر تطرفاً من «المجاهدين» الذين جاؤوا من أنحاء عديدة بعيدة كل البعد من سوريا، فيهم آلاف من العرب (من شمال أفريقيا خاصة مع قلة جاءت من بعض أنحاء الجزيرة والخليج، والسودان ومصر وحتى لبنان).
أما الذريعة فكانت، في الغالب الأعمّ، وربما بدافع التغطية على الأهداف الفعلية، أن هؤلاء المقاتلين إنما جاؤوا لنصرة «أهل السنة» ضد «الحكم العلوي» ومساندتهم أساساً ضد إيران (التي أوفدت بعض «حرسها الثوري» فعلاً لدعم النظام و «حزب الله» في لبنان). وهكذا تصبح المواجهة خارج السياسة وتكاد تنحصر في الصراع بين أهل السنة والشيعة (مع تأكيد أنّ العلويين منهم).
على أن الحرب الطائفية لم تنجح في سوريا بقدر نجاحها في العراق، ربما لأن النظام كان أكثر ذكاءً وأعظم إنجازاً في داخل المجال السياسي العربي (وبالتحديد في زمن الرئيس الراحل حافظ الأسد). كما أن حزب «البعث» في سوريا أعرق وقد نجح حكمه في تخطي عقبات كأداء، وشهد له حتى خصومه بالحكمة والدهاء في إدارة شؤون البلاد وسط عواصف عنيفة، على امتداد ثلاثين سنة طويلة وحافلة بالتحديات والمخاطر، بين محطاتها العظمى حرب تشرين (أكتوبر) 1973 المجيدة، (بالشراكة مع مصر) وحرب لبنان الأهلية بكل تداعياتها الدولية، ثم الحرب العراقية ـ الإيرانية وغزوة صدام حسين ثم الحرب الأميركية ـ العربية التي شاركت فيها قوة من الجيش السوري إلى جانب الجيش الأميركي وكتائب من جيوش عربية كثيرة.
على أنه من الضروري الإشارة إلى أن الدعوة إلى العلمانية كانت أكثر نجاحاً في سوريا منها في العراق، ربما لأن تاريخ الحياة السياسية كان أكثر غنى وأكثر حيوية في سوريا منه في العراق. وهنا لا بد من أن نتذكر تأثير الهزيمة العربية في فلسطين على العرب عموماً، وعلى السوريين خاصّة. وهي قد دفعت بجموع من المناضلين، مدنيين وعسكريين، إلى ترك مناصبهم وأعمالهم والتطوع للقتال ضد المشروع الإسرائيلي، بمعزل عن فارق القوة.
وحتى اليوم، وبرغم الحرب المفتوحة على سوريا وفيها، التي تشترك في القتال ضد القوات المسلحة فيها عشرات المنظمات الإرهابية، أكثر من نصفها وافد من الخارج، وعبر الأراضي التركية أساساً ومع غضّ النظر الرسمي عنها، فإن الجيش السوري مدعوماً من إيران ومن «حزب الله» في لبنان قد صمد في المواجهة المكلفة. وهذا يثبت، ولو بشكل غير مباشر، أن الطائفية أقلّ تأثيراً بما لا يُقاس منها في العراق، وأن «العلمانية» بصيغة أو بأخرى، قد حققت نجاحاً، إذ كان من الصعب التمييز بين السوريين على قاعدة طائفية.
في أي حال، لا بد من الاعتراف بأن دولاً عربية، إضافة إلى تركيا، قد شاركت في الحرب على سوريا تحت شعار طائفي، بل مذهبي. ويمكن القول بالمقابل إن مشاركة إيران وفصائل حزبية على صلة بها قد زادت من الطابع الطائفي لهذه الحرب السياسية بامتياز، التي كانت تهدف إلى ضرب آخر قوة عسكرية عربية ما تزال تُحتَسب في رصيد المواجهة التي لا بد آتية، ولو بعد حين، مع العدوّ الإسرائيلي.
على أن هذه «الجبهة» قد توسّعت مؤخراً، وبعد مباشرة العراق حربه الفعلية لتحرير الموصل، العاصمة الثانية للعراق وحافظة بعض كنوز تراثه الحضاري النادر والاستثنائي في قيمته الفنية فضلاً عن موقعها في التاريخ. وهكذا حرّض الحكم التركي بعض أنظمة الجزيرة والخليج ضد الحكم في بغداد، إضافة إلى دفعها للاستمرار في حربها على النظام في سوريا.
هل من الضروري التذكير بأن حكم أردوغان كان الداعم الأخطر لحكم «الإخوان المسلمين» في مصر، ما سبب قطيعة رسمية وشعبية بينه وبين الشعب المصري قبل السلطة في القاهرة؟
لكأنها حرب مفتوحة بين العروبة، برغم ضعفها الراهن، وبين الإسلام السياسي في أسوأ صوره ممثلاً بـ «داعش» و «النصرة» وحكم «الإخوان» في أنقرة.
والميدان هو الحكم، في غياب الشعوب.
صحيفة السفير اللبنانية