من عبد الحليم حافظ إلى الشيخ إمام إلى يسرا الهواري الأغنيات تخيف وتجابه وتفتح جدراناً (محمد شعير)
محمد شعير
الأغنية صادمة للذوق التقليدي. فتاة صغيرة تحمل "الأوكورديون"، تتحرك بين الأسوار الأمنية الصادمة التي وضعتها أجهزة الأمن في وسط القاهرة.. وتغني: "قدّام السور قدّام اللي بانيه… قدّام السور قدّام اللي معلّيه… وكمان قدّام اللي واقف يحميه… وقف راجل غلبان وعمل بي بي.. تصمت قليلا مع العزف قبل أن تواصل الغناء: "ع السور، واللي بانيه، واللي معلّيه".
"السور" واحدة من أهم وأجمل الأغنيات التي يتم تداولها على الإنترنت. كلمات وليد طاهر وغناء يسرا الهواري.. تغني.. أداء يسرا في الكليب معبر أيضاً سواء حركتها وقفزاتها على السور، أو حركات جسدها وعينيها. البساطة لم تمتد فقط إلى كلمات الأغنية العارية تماماً من أي محسنات بديعية أو مصطلحات سياسية، ولكن إلى الموسيقى العارية حيث لا تستخدم المطربة سوى الأوكورديون. كما أنها ليست فقط أغنية "تعبير موقف" يمكن أن تتجاوزها الأيام بعد ذلك فنيتها تجعلها تتجاوز الحدث، ليست أغنيات منفلتة ولكنها عارية من الفن مثل أغنيات رامي عصام مثلا. يسرا ليست هذه محاولتها الأولى في الجرأة المنفلتة، لها أغنية سابقة بعنوان "يا أوتوبيس".. تقول كلماتها: "يا أوتوبيس يا ماشي قدامي. وعمّال تطلع علىَ خرا. يا اوتوبيس يا ماشي قدامي… يا أتوبيس يا سادد السكة كفاية خرا". هذه البساطة تجعل كلمات مثل "خرا، وبي بي" تمران بسهولة لا يمكن أن تثير شيئاً سوى السخرية المقصودة.. الثورة هنا خيال جامح وجدران تهدمها الرسوم وأغاني تعبر كل الفضاءات المغلقة كما أن الألفاظ التي تبدو جارحة لم تعد سباباً بالمعنى القديم. يسرا واحدة من هؤلاء الذين عبروا عن لحظة ما بعد الثورة المصرية، هي مع فرق موسيقية أخرى شابة تحاول ان تعبر عن اللحظة بتعقيداتها واشتباكاتها. بعد الثورة تحررت العديد من الفرق الموسيقية، كانت تريد أن تعلن رفضها بطريقتها الخاصة. كان هناك إدراك أن اللغة الحرة تخلق عالما حراً.. تفتح جدراناً تتوهم السلطة أنها تحميها. فرق جديدة، وأخرى تستعيد فناً ثورياً قديماً لكنه قد يكون صالحاً أيضاً لإثارة الدهشة.
عندما غنى عبد الحكيم حافظ لصلاح جاهين أغنيات وطنية، كان حدثاً كبيراً أن تنسل كلمات مثل "الاشتراكية"، "الميثاق"، "الاستعمار"… وغيرها من المصطلحات السياسية. كانت أغنيات جاهين هي الأغنيات الرسمية للثورة، مدعوة من السلطة، تغنى في احتفالاتها الرسمية، كانت أغنيات معقدة موسيقياً، من حيث استخدام الآلات المستخدمة وكأننا أمام "أوبرا".. وهو ما اتاحه التوزيع الموسيقي لعلي إسماعيل. في أغنياته قدم جاهين لغة مختلفة، لغة شقية في مقابل اللغة الرصينة، لكن المضمون لم يكن مختلفاً عما هو سائد، أي باختصار كان هناك تمرد في اللغة، مع مضمون غير ثوري، كنا أمام لغة تسير في نسق كلاسيكي تماماً. قبل أيام من هزيمة 1967 كان يتوقع أن تتطور الأغنية الثورية تطورا كبيرا، كتب وقتها في مجلة "صباح الخير" تحت عنوان"وسط الحديد والنار يولد الفن الجديد" يقول: "قفزت الأغنية قفزة كبيرة بعد معركة 56.. ويبدو أن هذه المعركة ستدفع بها دفعة جديدة، وستكون الخطوة التالية هي ظهور الأغنية القصيرة جداً.. القصيرة جداً..وسنرى".
ولكن الهزيمة لم تترك له أملا أو مقدرة على تنفيذ ما يحلم به، كانت اقسى من تصوراته.. تحول حلمه من "تماثيل رخام ع الترعة واوبرا" كما غنى عبد الحليم حافظ الى كابوس موجع.. حتى إنه تراجع أمام الهجوم الشديد الذي لاقاه في فترة السبعينيات عن كل ما كتب عن الثورة، وعندما استعاد قليلاً من هدوء النفس عاد مرة أخرى ليعلن: "لست نادماً على ما كتبته من أغان للثورة.. لقد أخطأت بما قلته عنها أخيراً.. ولكن لحسن الحظ لم يصدق الناس ما قلت".
دفاع جاهين عن نفسه أمام الهجوم القاسي عليه في السبعينيات كان انسجاماً مع الحقيقة، فهو لم يكن من ذلك النوع من المثقفين الذين تستأجرهم السلطة للدفاع عنها والإشادة بإنجازاتها، بل كان صادقاً ومتوائماً مع ما كتب، وكانت هذه الاغنيات: (هي أغاني بنات بتجري على الزراعية وليست أغاني حرب، وإنما فن شعبي "المسؤولية" و"يا أهلا بالمعارك" و"صورة" لم يكن من الممكن أن توجد ما لم يحدث تزاوج بين الشعور الوطني والاتجاهات الفنية والموقف السياسي) وهو ما اكد عليه جاهين في أحد حواراته. ولأن…" الإصابة جامدة مهياش حاجة صغيورة" كما قال مبررا تركه رئاسة تحرير مجلة "صباح الخير" فقد كانت مناسبة أيضا لكي يخرج من صراعه بين تثوير اللغة مع مضمون تقليدي، كسر جاهين كل الأطر لغة ومضمونا، وسخر من الرموز ومما كان محل مدحه من قبل،. يكتب جاهين في رباعياته: "يا طير يا عالي في السما طز فيك"، وفى الأغنية الشهيرة "بانو بانو" يكتب: "وعرفنا سيد الرجاله/ عرفنا عين الأعيان/ من بره شهامه وأصالة / تشوفه تقول أعظم إنسان/ إنما من جوه يا عيني عليه/ بياع ويبيع حتى والديه/ وأهو ده أللي اتعلمنا على ايديه/ القهر وقوة غليانه".. من هو سيد الرجالة الذي يقصده جاهين في أغنيته؟ وكيف يعريه ويكسف عنه قناعه الزائف؟ وهكذا تبدو السياسة لدى جاهين في مرحلة ما بعد الهزيمة: "شيكابيكا وبولوتيكا.. ومقالب أنتيكا ولا تزعل ولا تحزن.. أضحك برضة يا ويكا".
لم يدخل الشيخ إمام متحف التاريخ. في كل مرة نظن أن أغنياته انتهى زمنها، تعود بقوة. فالهزيمة التي غنى لها صارت هزائم. والزنازين صارت بحجم الوطن، وأصبح السجن ـ فعلياً.. "مطرح الجنينة"، وصارت الثورة "ثورات" هكذا لن تصبح أغنيات الشيخ "ثراثاً" ينبغي إحياؤه، ليس فقط لأن قصيدته السياسية التي عبرت بقوة عن وطن "محتل"، وما زال، ولكن لأن ألحان الشيخ ـ بعيد حتى السياسة – تستحق ما هو أكثر من شهرتها السياسية.
في أواخر الستينيات، كتب صحافي بالأهرام يتساءل: من هو؟
كان يقصد الشيخ إمام معتبرا أنه "لا يعدو وميضاً سيخبو..لن يقاوم لن يستمر فهو مجرد مؤد سيستمع إليه البعض القليل، وبعدها بحين قليل سينصرف الناس القليلون عما يقول". لم تصدق "الشهادة المجروحة". فالشيخ فاقد البصر لم يكن فاقداً للبصيرة. ولكن كيف استطاع إمام أن يصمد ويتجاوز رغم غيابه.. رغم أن كثيرين كانوا اكثر منه شهره وسطوة اختفوا بمجرد رحيلهم؟
لم يكن الشيخ إمام كما كتب المفكر الراحل فؤاد زكريا: "يقدم لنا فناً موسيقياً فحسب، إن وسائله في الموسيقى بسيطة إلى أبعد حد: عود يعزف عليه هو نفسه ورق يعزف عليه ضابط الإيقاع..ومع هذا فهو في حدود هذه الامكانيات البسيطة يقترب من هدف المزج بين معنى الكلمة ونوع اللحن إلى حد يفوق فيه كل من عداه من الملحنين". زكريا اعتبر أن الشيخ "ظاهرة لها سماتها الفريدة، هو يجمع بين صفة الفنان وصفة الخطيب السياسي والناقد الاجتماعي الساخر… إنه باختصار يقدم نوعاً من الأداء يتخطى الحواجز التي ألفناها بين الفنون، بل بين الخيال الفني والواقع الفعلي للناس".. فهو لا "يداعب مشاعر سامعيه أو يعللهم بالأماني الخيالية..". بل يصدمهم ويؤنبهم ويوبخهم وينبههم إلى كل ما هم فيه من غفلة وتهاون وتراخ". أما الدكتور حسن حنفي فاعتبر ألحان الشيخ "ألحانا شعبية أصيلة إذ تكون الأصالة بقدر ما يرتبط اللحن بالأرض وبالتراث". كما انه من وجهة نظر ناقد موسيقي مثل الراحل كمال النجمي "يرتبط بحركة إحياء الغناء الحضاري والشعبي وهي ليست حركة عابرة وإنما أصيلة أنضجتها في عصرنا عوامل عميقة تتصل بماضينا وحاضرنا ومستقبلنا". آراء عديدة جاءت في إطار معركة طويلة بين عدد من المثقفين من جانب، وبين آخرين حاولوا تشويه ألحان الشيخ وتاريخه لصالح السلطة التي كان ينتقدها. وتصلح أن نسميها معركة الشيخ إمام.
ولكن الشيخ إمام انتصر في نهاية المعركة.
إمام المولود عام 1918 كان عصياً على "التصنيف" يهرب دائماً من الأنماط الجاهزة. منذ طفولته حفظ القرآن، وترك قريته الصغيرة "أبو النمرس" محافظة الجيزة متجهاً إلى المدينة الكبيرة لكي يجيد تجويد القرآن، هناك التقى الشيخ محمد رفعت الذي استمع إليه وتنبأ له بأنه سيكون له "شأن عظيم"، التحق إمام للإقامة في الجمعية الشرعية التي كانت تحرم الاستماع إلى الراديو حتى ولو كان ما يذاع فيه قرآن، وشاء الحظ العاثر للشيخ أن يضبط متلبساً بالاستماع إلى الشيخ رفعت ففصل من الجمعية، أصبح بلا مأوى فأقام في الجامع الأزهر. ثم قادته قدماه إلى "حوش آدم" التي لم يتركها حتى رحيله. هناك تفجرت مواهبه الموسيقية، كانت البداية عندما استمع بالصدفة إلى أم كلثوم وهى تغني في الإذاعة "ليه تلاوعيني"، أحس أنه يسمع شيئاً جديداً مختلفاً.. ثم التقى بالشيخ درويش الحريري، وعندما عرف أنه استاذ محمد عبد الوهاب وزكريا أحمد لم يتركه لحظة، تعلم على يديه النغمات وأصولها، والمقامات وأصول الموسيقى ثم العزف على العود.. وبدأ يمارس الغناء كمحترف. وفي إحدى ليالي عام 1962 تعرف على شاعر شاب خرج لتوه من السجن اسمه أحمد فؤاد نجم، غنى إمام للشيخ زكريا أحمد، فسأله نجم لماذا لا تغني من ألحانك؟ فأجابه: لا أجد الكلمة التي اقتنع بها. فكتب نجم له عددا من الأغنيات العاطفية. من بينها «أنا أتوب عن حبك»: «ساعة العصاري»، «عشق الصبايا». ولكن نكسة 67 غيرت الحال وبدأت مرحلة جديدة مع نجم. كتب نجم وغنى إمام "الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار/ يا أرض مصر المحمية بالحرامية الفول كتير والطعمية والبر عمار"، وكانت هذه الأغنيات تتجاوب بشدة مع التظاهرات الطلابية العارمة التي اجتاحت البلاد، ثم راح يغني "ناح النواح والنواحة على بقرة حاحا النطاحة/والبقرة حلوب، تحلب قنطار/ لكن مسلوب من أهل الدار".. "بقرة حاحا" التي كانت أول اشتباك مع السلطة وأول هجوم صريح ضد عبد الناصر، واحتشد المثقفون للاستماع إلى النغمة الجديدة المختلفة في الشعر والغناء. وهو الأمر الذي لفت نظر السلطة لهما، ولم تفلح محاولات السلطة في إغراء أو شراء الشاعر والمغني الضرير.. عندما بدأت أغنياتهما تنتشر، وكانت أقسى هجاء لمرحلة عبد الناصر اقترح البعض اعتقالهما، وقال آخر "إنها صرخة جوع" فإذا ما أتخما بالنقود سيلتزمان الصمت، بدأ سلاح الترهيب فزارهما مدير صوت العرب طالباً أن يغنيا في الإذاعة، وأخرج لكل منهما 10 آلاف جنيه.. اعتبراها "رشوة" واضحة واستمرا في العناد..فتم تلفيق قضية مخدارت لهما: "استغلوا فرصة وجودنا خارج المنزل، وكسروا الباب ووضعوا كمية مخدرات تمون أفريقيا وآسيا (كما يقول إمام)، ولكن القاضي تعاطف معهما وأصدر قراراً بالإفراج عنهما ولكن الداخلية أصدرت قرارها بالاعتقال". ورغم وساطات العديد من القادة بالإفراج عنهما، وكان من بين الوسطاء نايف حواتمه الامين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين الذي قال له عبد الناصر: "الجماعة دول مش حيخرجوا من السجن طوال ما انا عايش" وهو الموقف نفسه الذي اتخذه السادات فيما بعد، وخاصة بعد سياسة الانفتاح. في الثمانينيات كانت شهرة إمام قد طافت الآفاق، وسافر معظم البلاد العربية، كما سافر إلى فرنسا بدعوة من وزارة الثقافة الفرنسية وأقام عدداً من الحفلات التي حققت نجاحاً كبيراً، وقد عرضت فرنسا عليه وعلى نجم البقاء لتسجيل مجموعة أسطوانات لكن كان البقاء مشروطاً "تحت صيغة اللجوء السياسي" وهو ما رفضوه. وفي منتصف التسعينيات رحل إمام ولكن بقيت ألحانه.. وحكايته: "اهي الحكاية مخلصتش ومصر بتصحى وشغلك محفوظ عند الناس، ولا تخاف عليه"، كما يقول الفاجومي مخاطباً إمام. ولعل من المفارقات التي تؤكد حضور الشيخ في ميادين الثورات العربية أن سنوات القليلة قبل الثورة، كان الحصول على أغنيات إمام عملاً محفوفاً بالمخاطر، يتم التوصية عليها من أصدقاء قادمين من بيروت أو تونس. ولو أسعدك الحظ وكنت على صلة بأحد في الوسط الثقافي المصري فيمكنك أن تحصل على نسخة مسجلة على شرائط الكاسيت من عازف الإيقاع محمد علي الذي يعتبر الضلع الثالث للمثلث الشهير (إمام- نجم ـ محمد علي). كما أن مكتبة مدبولي كانت المكتبة الوحيدة التي تبيع أعمال إمام، ودائماً ما يوحي لك البائع – كجزء من التسويق الفطري – إنه "يخوض مغامرة" شديدة لتوزيع هذه الأعمال!
بالتأكيد الآن الوضع مختلف، لم يعد المنع قائماً، بل بالإمكان الحصول على كل أعمال إمام، الشهيرة منها والنادرة من على شبكة الإنترنت. بل هناك العديد من المواقع المخصصة لأغنياته ومن بينها:
http://chaykh.imam.free.fr/ كما أن المواقع الشهيرة مثل "موالى"، سماعي"، " صوارى" وغيرها تخصص أقساما كاملة لأغنيات الشيخ. ولكن ربما يكون موقع "الملتقي" التونسي http://www.moultaka.info هو أوفى وأشمل المواقع التي تضمنت كل شيء عن الشيخ، الأغنيات واللقاءات المسجلة، والحفلات، والحوارات الصحافية، والابتهالات الدينية.. أما مفاجأة الموقع فهو القرآن كاملا بصوت الشيخ، وهى تسجيلات قامت بها الصحافية صافيناز كاظم عام 1980 للشيخ واحتفظت بها وأفرجت عنها مؤخراً.
دليل آخر على حضور الشيخ، عدد الفرق الموسيقية المستقلة التي تأسست في مصر خلال السنوات الماضية لغناء الأغنيات السياسية الملتزمة، ومن بينها أغاني الشيخ إمام. أول هذه الفرق "عفاريت الشيخ إمام" التي اسستها الفنانة عزة بلبع الزوجة السابقة للشاعر أحمد فؤاد نجم، وتضم عدداً من العازفين المكفوفين ممن تعاملوا مع الشيخ قبل رحيله. الفرقة لا تكتفي فقط بغناء الأغنيات القديمة، وإنما أيضا ثمة شعراء يكتبون أغنيات جديدة، ومن بينها أغنية بعنوان "يا برادعي عدينا". وهي أغنية مهداة إلى محمد البرادعي. ومن الفرق الأخرى التي تغني الشيخ إمام فرقة "طمي"، وقد بدأت الفرقة عام 2002 بمجموعة من طلبة كلية فنون جميلة. كان أول عروض "طمي" بعنوان " الطمي واحد والشجر الوان" استلهمت فيه الفرقة التي يديرها سلام يسري، وكان العرض عبارة عن سينوغرافيا غنائية من فصلين مدتها ساعتان لأغاني الشيخ إمام، وأغاني عدلي فخري. كما توجد فرقة "نغم مصري" يديرها شربيني أحمد وتعتمد فقط على تقديم أغنيات الشيخ إمام، وبعض قصائد صلاح جاهين وفؤاد حداد.
أما الفرقة الأشهر "إسكندريللا" التي تأسست عام 2001 على يد حازم شاهين وشادي مؤنس، وكانا يحلمان بموسيقى وأغنية تبحران عكس تيار السائد، وتنقضان مقولة خاطئة طالما استعملت لمصادرة الإبداع وتشويه الذوق، أي "الجمهور عايز كده". وقد وجدا هذه الضالة في أغنيات سيد درويش والشيخ إمام. كلاهما حسب تعبير شاهين اسهم، في تكوين الوعي السياسي في مصر. سيّد درويش وضع أسس التجديد الموسيقي مطلع القرن الماضي، وأرسى تقاليد موسيقيّة طالعة من تجربة الشعب وحياة الكادحين في مصر. والشيخ إمام ألّف ثنائياً مع أحمد فؤاد نجم، وعبّرت أغنياتهما في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، عن الوعي العربي المعارض بين محطتين مفصليّتين: النكسة والانفتاح… وما زالت أغاني الشيخ الضرير إلى اليوم تتصدّر التظاهرات في مصر. شاهين لا يرى أن الشيخ إمام تراث ميت ينبغي احياؤه: "نحن نقدم الأغنيات كما هي، لا نغير مثلاً في المقام الموسيقي أو غير ذلك. الأغنيات لا تحتاج إلى ذلك أساساً، فهي تحمل توقيع مجددين في الغناء المصري. ولا تنسَ أن تقديمها كما هي، أصعب بكثير من محاولة الادّعاء بتجديدها".
تسبق الثورة أو تمهد لها أحيانا "أغنية" قد تعكس قلق المجتمع وتململه من الأوضاع السياسية، أغنيات سيد درويش كانت من ذلك النوع مع ثورة 19، سبقت خروج الجميع في الشوارع مطالبين بالتغيير، كان درويش "صادقاً" لم يجعل ـ حسب تعبير الناقد الموسيقي كمال النجمي – "الكلام عن الوطن والحرية والاستقلال خارجاً عن مألوف الكلام المتبادل بين الناس بل مزج فيه البساطة بالصدق، وكان هذا من أسباب الذيوع الذي أحرزته ألحان درويش في سرعة قياسية وعلى أوسع نطاق، قبل أيام من ثورة 19 كتب درويش عن إضراب موظفي الحكومة اغنيته الشهيرة "هز الهلال يا سيد.."..معلناً: "حد الله ما بينا وبينك غير حب الوطن يا حكومة". ربما كان فيلم "ميكروفون" للمخرج أحمد عبد الله عرض مباشرة قبل أيام من ثورة 25 يناير ويتناول ذلك التململ من الأوضاع السياسية، وحروب الرقابة ضد الفرق الغنائية المستقلة، محاولاتهم البحث عن ذات مختلفة عن السائد، في احد مشاهد الفيلم يرفض المسؤول الثقافي الكبير أن تعرض الفرق عروضها داخل "الأوبرا"..لأن كلمات الأغنيات ساخرة لدرجة البذاءة التي لا تتحملها المؤسسة الرسمية، كان الغناء في الشارع هو البديل لمؤسسات الثقافة الرسمية، ولكن الشارع أيضاً محفوف بمخاطر سلفيين وجماعات دينية تكره الفن والغناء، وأمن وبوليس لا يتحمل أغنية… يكتب فنانو الفرق المستقلة كلمة واحدة للمسؤول الثقافي يشاهدها من مكتبه، لا تظهر الكلمة الخارجة أمام الكاميرا, لكن يمكن إدراك المعنى بسهولة..كان "ميكرفون" فيلما خارج السائد يرصد بالفعل إحساسا بتململ لثورة قادمة، ربما كانت أغنيات الالتراس "روابط مشجعي الكرة" نوع آخر من الاحتجاج "خافي منا يا حكومة"..قبل الثورة المنتظرة..وهو ما حدث بعد ذلك بشهور وربما أيام قليلة. أغنيات الألتراس صارت بعد الثورة أيقونة لها، يغنيها الجميع، وتحديداً تلك الأغنيات التي تسخر من السلطة وأوهامها في القوة. غنى الألتراس للمجلس العسكري: "آه يا مجلس يابن الحرام بعت دم شهيد بكام". وغنوا للضابط الداخلية: "مش ناسيين التحرير يا ولاد الوسخة.. الثورة كانت بالنسبة لكم نكسة".
في جمعة الغضب (28 يناير) بينما يقاتل الشباب في شارع القصر العيني للوصول إلى ميدان التحرير، في معركة طاحنة مع جهاز الأمن، تحرك شخص بسيارته بالقرب من الأحداث، واشغل اغنية شادية الشهيرة: "يا حبيبتي يا مصر"، وعندما وصلوا الميدان انطلقت أغنيات" أنا الشعب لا أعرف المستحيلا" لأم كلثوم.. وكان لهذه الأغاني مفعول السحر في الشد من أزر الثوار المرابطين في الميدان ودفعهم للاستمرار من أجل تحقيق مطالبهم المشروعة حتى أنهم كانوا ينشدونها على طريقتهم الخاصة وبمختلف انتماءاتهم السياسية والدينية والاجتماعية حتى أنك لا تكاد تلمس أي فارق اجتماعي بين الجميع ولو أطلت النظر إليهم لساعات كثيرة. وبدأت طوال أيام الثورة مرحلة تأليف الغناء العفوي، وكثير من هذه الأغنيات لم يتم تسجيله، وكان معظمها تلحين لشعارات الثورة، برزت أسماء مثل رامي عصام، في اغنيات حماسية أكثر من كونها فنية، وحمزة نمره المهتم بالعمل الصالح والأخلاق، ومصطفى سعيد الذي يستعيد الشيخ إمام، والثلاثة حملوا جميعا لقب "مطرب الثورة".. وعلى الجانب الآخر قدم الملحن عزيز الشافعي أغنية «يا بلادي» مستوحياً «التيمة» من لحن الموسيقار الكبير الراحل بليغ حمدي وهو ما كان سبباً في نجاح الأغنية. الشافعي يرى أن الأغنيات التي قدمت بعد ثورة 25 يناير تميل للون الغربي، ويعتبر أنه ليس هناك مشكلة في ذلك طالما تحقق النجاح وتعبر عن الشباب وتصل إليهم.
ومن أبرز الفرق الموسيقية التي برزت بعد الثورة فرقة كورال يوتوبيا التي حولت الشعارات التي كان يرفعها المعتصمون في مصر، تحولت إلى مقاطع وجمل في لحن طويل. ومشروع كورال عبارة عن ورشة عمل مفتوحة ومتغيرة، إذ يتم اختيار موضوع مختلف في كل مرة، وعبر اللقاءات التي تتم بين أفراد المجموعة، ومن خلال الارتجال الحر والمشاركة الجماعية على مستوى تأليف الكلمات والألحان يظهر المنتج الفني في عدد من الأغاني المرتبطة في سياق محدد يتم الاتفاق عليه. وتشكلت الفكرة في عام 2010 بعد مشاركة مجموعة من 25 شاباً وشابة من مصر وبعض البلدان العربية في ورشة كورال شكاوى القاهرة الذي كان جزءاً من مشروع دولي بدأه اثنان من فنلندا مستندين إلى مثل شعبي شائع في بلدهم يدعو إلى الغناء بدلاً من الشكوى، بعدها انتشرت فكرة الشكوى بالغناء في عشرات المدن حول العالم.عرض كورال الشكاوى في مصر ولقي ترحيب واستحسان كثيرين لفكرته أولاً، ثم لارتجاله وعفويته أيضاً. فالاشتراك في الكورال لا يتطلب اختباراً أو شروطاً بعينها، كالخبرة في الغناء أو الموسيقى. فالرغبة فقط في الانضمام هي ما تؤهلك للمشاركة، بصرف النظر عن خبرتك السابقة. وقد تعرض الكورال بعد الثورة للمنع من الغناء في الأوبرا، ولكن الشباب نزلوا لحمايتهم واجبروا الأوبرا على استقبالهم حتى لا يتكرر ما كان يحدث قبل الثورة/ وغنوا.. ولا زالوا: "مش هانخاف مش هانطاطي/ إحنا كرهنا الصوت الواطي، الخوف مافيش/ مافيش شاويش/ مافيش طابور/ عشان رغيف، إرفع كل رايات النصر/ إحنا شباب هنحرر مصر". كما برزت أسماء هامة مثل محمد محسن الذي اصدر ألبومه الأول "اللف في شوارعك"، ويعتبر أهم الأسماء الغنائية البارزة بعد الثورة، وهناك فيروز كراوية التى قدمت عددا من الأغنيات كان آخرها "مات الكلام"، كلمات الشاعر مؤمن محمدي، وهي الأقرب للأغنية الاحترافية، والموسيقى فيها كانت للموزع أسامة الهندي، وهي أغنية جماعية بمعنى الكلمة، تصدت لها فيروز بشجاعة كبيرة. حسب تعبير المحمدي.. الذي يوضح: "لا أقصد بالشجاعة الموقف السياسي، فهذا أقل واجب، وإنما الشجاعة كانت في أداء المطربة المعروفة كمغنية مثقفة لأغنية تستلهم روح المهرجانات حتى إن مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي تداولوها بالفعل تحت عنوان: "مهرجان مات الكلام"، بل إن بعض مطربي المهرجانات أعادوا تقديمها بالفعل من خلال ريميكس المهرجان الشهير. أعتقد أن هذه الأغنية ليست كسابقتها، فرغم أنها ارتبطت بحدث، هو الاستفتاء على الدستور، إلا أنها تجاوزت لحظتها، وما زالت تحت التداول حتى اليوم. وإن كان هذا لا يمنع اقتناعي بأنه ليس مطلوبا من أغنية كهذه سوى التفاعل اللحظي مع الحدث"، تجربة المحمدي ليست الأولى بعد الثورة سبقها أيضا أغنية "أسقطناه " تم تلحينها وغناؤها في الميدان بصحبة مجموعة من الكتاب والفنانين، وكان عنوانها: "أسقطناه" في سخرية من الأوبريت الشهير: "اخترناه"، وهي أغنية ابنة لحظتها، أدت رسالتها وانتهت برحيل مبارك. وكما قدمت الثورة أسماء غنائية جديدة، أعادت آخرين إلى الغناء، ربما أبرزهم المطرب علي الحجار الذي انتج ألبوماً كاملا عن الثورة "ضحكة المساجين"، انتجه الحجار على نفقته الخاصة، ولم تتحمس له شركات التوزيع، هو لا يعرف سبباً لذلك ربما كما يقول: "وكأن هذه الجهات لا تريد أن يفرح الشعب بنجاح ثورته، ولا تريد أن يسمع الناس أغاني تعطى شرعية للثورة". "ضحكة المساجين" هي قصيدة طويلة للشاعر عبد الرحمن الأبنودي صاحب أغنيات "المسيح" و"عدّى النهار" اللتين غناهما عبد الحليم حافظ في أعقاب هزيمة يونيو.. لا يقارن الأبنودي بين الزمنين: القضية شديدة التعقيد، ففترة الستينيات وأوائل السبعينيات، كانت مفعمة بالحس الوطني والروح الثورية التي تبحث عن استقلال وحرية هذا الوطن، كان الجميع مشاركاً في ذلك سواء الفنانون أو الدولة، أي أن المجتمع بإدارييه وفنانيه ومواطنيه، كان متوافقاً سياسياً وفكرياً ووطنياً، ومن هنا كان لا بد أن نقول كل ما يدور بخاطرنا سواء في الهزيمة أو النصر بصورة حقيقية من دون «إملاء علوي» من السلطات، لكن حالياً المجتمع ليس على خط واحد، ولكل منا توجهه وأمنياته الخاصة لهذا البلد، لذلك ساد الارتباك. وأضاف الأبنودي: الدولة وإعلامها ليسوا على نفس الموجة أو القدر من الرغبة في إيقاظ الفكر والروح القومية والوطنية، لذلك لا نجد إنتاجاً غنائياً وطنياً، أو حتى عاطفياً يخرج من أبواب الإعلام الرسمي، وقال «الأبنودي»: ما يبيض وجهنا قليلا ويؤكد أن شعبنا لا يموت، أنه حين لا يجد هذه الأغنيات التي تقف في قامة أغنيات الستينيات، فإنه يبدع أغنياته بنفسه، وهذا ما حدث من شباب ميدان التحرير، وتلك الأعمال التي ظهرت في الأيام الأولى للثورة وكتبها ولحنها شباب الميدان بأنفسهم، من دون أن يعتمدوا على الإنتاج الموسيقى الضخم أو التصوير المبهر أو الأصوات المحترفة، لكنها أغنيات لا تنقصها الحرارة والوعي.
وكنوع من مقاومة التشدد الديني ظهرت أغنيات كثيرة، رفضت معظم القنوات التلفزيونية إذاعتها، وكان موقع "اليوتيوب" هو المكان الوحيد الذي تبناها..بعض هذه الأغنيات لمطربين معروفين مثل مدحت صالح وأغنيته «مسلم والرك على النية.. مش قصة دقن وجلابية". "مش دقن وجلابية" هو أيضا عنوان أغنية لمغن وملحن شاب اسمه كاظم حميدة قال إنه قدم الأغنية لعشرين قناة تلفزيونية كلها خشيت من عرضها، رغم أن كلماتها عادية جداً، ومنها مثلا: «الدين يا ناس معاملة مش كلمة منظرة.. أوعاك لغيرك تدقق أو تعيب.. بص لنفسك تلاقى عيوبك تشيب».. فيها غلط دي؟!
من الأغاني التي رفضت القنوات أغنية «إنتي دولة» للمغنى والملحن عزيز الشافع لأنها تقول: "إنتي دولة مش تكية مش مقاولة".. وأيضاً أغنيتي سما المصري "تبلطج"و "يا حبسجية يا تجار الدين"، وهى جميعها أغنيات أزاحت القناع عن جماعات الإسلام السياسي عبر لغة بسيطة عارية من مكياج البلاغة" ما جعلها تصل للكثيرين، وهو ما قام به أيضا فرق "موسيقى المهرجانات" وهي فرق تقدم نوعاً من موسيقى الراب، وتعرض اغنياتها في المناطق الشعبية، وتحاول الآن أن تنتقل من الهامش إلى المتن عبر اعتراف "مؤسسة" السينما بهم وتقديمهم في أكثر من فيلم..ولكن هل شروط المتن ستفرض عليهم كلمات أخرى للغناء… أم أن الهامش نفسه يصير متناً لتولد هوامش أخرى.
على هذه الأرض ما يستحق الحياة
يقول محمود درويش… ويعدد الأسباب
ومن بينها بالطبع: خوف الطغاة من الأغنيات
صحيفة السفير اللبنانية