تحليلات سياسيةسلايد

من عسكرة المجتمع إلى إخفاق الدولة: جذور الأزمة ومداخل المعالجة

كريم حداد

ليس من باب المصادفة أن تستمر الجماعات السياسية المسلحة (المقاومة بخاصة) في التمدد داخل البنى الاجتماعية والسياسية لعدد من دول المشرق، رغم كل الترداد المألوف عن ضرورة العودة إلى «الدولة الوطنية» و«احتكار العنف الشرعي». فالظاهرة لا تُفهم، ولا ينبغي مقاربتها، انطلاقًا من بعد أمني أو تقني بحت، بل تتطلب تفكيكًا جذريًا للبنية العميقة التي أفرزتها: الدولة ذاتها.

 

إن المدخل لتحليل أزمة تلك الجماعات، لا يكمن في وسمها بخارجية أو شاذة، بل في الاعتراف بأنها خرجت من رحم المجتمعات المتصدعة التي عجزت الدولة عن تمثيلها أو حمايتها أو تنظيم شؤونها. الجماعة السياسية المسلحة ليست طارئًا على الجسد الوطني، بل إفراز حيّ من إفرازات أزماته. إنها، في بعض حالاتها، آلية أهلية بديلة في زمن الانكشاف السيادي، أو ردٌّ على عدوان خارجي تقاعست الدولة عن مواجهته، أو تمظهر لغضب جماعي ضد تركيبة سياسية لا تعبّر عن عدالة توزيع السلطة والموارد ولا تحمي مصالح الجماعات المختلفة.

الخطأ المنهجي الذي يقع فيه كثيرون هو جعل الجماعات السياسية المسلحة الموضوع الرئيسي للأزمة بدل أن تكون مؤشرًا عليها. بمعنى آخر، ليست الميليشيا (وهو مصطلح كريه لالتصاقه بمجموعات العملاء الفرنسيين للاحتلال النازي لفرنسا) هي البداية، بل هشاشة العقد السياسي، وارتباك الشرعية، وانفصام الدولة عن شعبها، هي النقطة التي تبدأ منها المعضلة. الحديث عن احتكار الدولة للعنف يفترض أن هذه الدولة تُمثل أولًا كل مكونات مجتمعها على نحو متساوٍ، وأنها تملك شرعية تعاقدية داخلية قبل أن تُطالب بشرعية احتكارية خارجية.

الاحتكام إلى «النموذج الوستفالي» (النموذج الذي يتحدث عن سيادة الدولة بعيداً عن التدخلات الخارجية) لدولة بوصفه معيارًا جاهزًا لحل مشكلات المشرق يغفل أن هذا النموذج ذاته ليس محايدًا ولا معزولًا عن سياقه. إنه مشروط بتوازن داخلي متين لا تملكه أكثر دول المنطقة، وهو مشروط كذلك باستقلال سياسي فعلي غير متحقق في حالات كثيرة. فلا معنى، مثلًا، لمطالبة جماعة مسلحة بتسليم سلاحها لدولة مرتهنة لهيمنة خارجية، أو بمطالبتها بالانخراط في مشروع وطني لا مكان لها فيه.

وليس المقصود بهذا التأطير تقديم مرافعة دفاعية عن ظاهرة الجماعات المسلحة بوصفها نموذجًا مرغوبًا فيه لإدارة الشأن العام، بل وضعها ضمن إطارها الواقعي: كأعراض لأزمة تكوينية لا تُعالج بالمسكنات الأمنية بل بإعادة بناء الدولة نفسها على أسس تمثيلية وعدالة شاملة. قبل أن يقال إن الجماعة السياسية المسلحة تهدد وحدة الكيان، ينبغي سؤال أوّل: من مثّل هذه الجماعة أصلًا؟ ومن تجاهلها؟ ومن تواطأ ضدها؟ ومن أراد لها ألا تكون؟

أي معالجة جذرية لمشكلة العنف الأهلي المنظم تمر عبر إعادة التفكير في ماهية الدولة، لا عبر تقويم معوج يرمي إلى الحفاظ على الشكل الخارجي للدولة مع استمرار تفريغها من أي مضمون تمثيلي أو عقدي. المطلوب ليس إعادة ترميم ما تبقى من المركز، بل إعادة صياغة المركز نفسه عبر توافقات عادلة بين المكونات التاريخية للمجتمع، توافقات تُعرّف وظائف الدولة داخليًا كضامنة للعدالة، وخارجيًا كدرع سيادي ضد الهيمنة والعدوان.

ثمّة من يُصرّ على التعامل مع الجماعات السياسية المسلحة كمشكلة هندسية قابلة للحل بالإدارة، أو كمجرد «شوائب» في النظام السياسي. لكن هذه الجماعات لا تنشأ في الفراغ، بل في بيئة معطوبة، تتوافر فيها عناصر الخوف، والتمييز، والتهميش، والتهديد الخارجي، وانسداد الأفق. وما لم تُستأصل هذه العناصر، فإن تفكيك الجماعة لا يؤدي إلا إلى إنتاج جماعة أخرى.

كما إن نقد الجماعات السياسية المسلحة لا يمكن أن يُعزل عن نقد البنية السياسية التي سمحت ببقائها وتكريسها، أو تلك التي لم تُقدّم بديلًا سياديًا عادلًا. هنا، لا تعود القضية محصورة بين «الدولة» و«الميليشيا»، بل تنفتح على أفق أعمق: الشرعية، والمواطنة، والسيادة، وتوزيع السلطة، وصناعة القرار. وما لم تُعالج هذه القضايا في أصلها، فإن كل حديث عن انتقال «من عصر الميليشيا إلى عصر الدولة» يبقى إما أمنية رومانسية أو وهمًا وظيفيًا.

العدالة التكوينية هي شرط الأمن السياسي. وأيّ «دولة» تُفرض خارج توافق المكونات الاجتماعية والسياسية، أو تُعيد إنتاج منظومة التمييز، أو تُقصي من ترى فيهم «الآخرين»، فهي ليست دولة، بل آلية لإدارة الانقسام بالقوة.

لذلك، إن الحلّ لا يبدأ من مطلب «نزع السلاح»، بل من تأسيس دولة تستحق أن يُسلم لها السلاح. دولة قادرة على أن تكون بيتًا جامعًا، لا سجنًا مرعبًا، وأن تعيد توزيع الثقة لا فقط تكديس السلطة. دولة تملك ما يكفي من الشرعية والعدل لتمثّل من كانت الجماعة المسلحة تمثّلهم، وتضمن لهم الأمن والكرامة والمشاركة. عندها فقط، ينتهي مبرر الجماعة المسلحة، لا بمرسوم ولا بإملاء، بل بتحوّل جذري في مفهوم الدولة نفسها.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى