من فلسطين قليلاً

كأن فلسطين تستحق عقوبة التخلي. لا فسحة إعلامية ليوميات الفلسطيني وهو يضرب رأسه بـ «الجدار». لا مكان لرصد معاناة الفلسطيني وهو «يطوف» في الطرق الالتفافية ليصل إلى موطأ رزقه وروحه. لا خبر عن إذلال مستدام، لشعب ينتظر على الحواجز، أن يفك أسره لساعات، تتيح له العمل الانتحاري اليومي، في المستوطنات التي اغتصبت أرضه ونهبت أفقه. لا فرصة لتعداد الأسرى المقهورين وعائلاتهم الصابرة ببسالة الرفض. لا مجال لنقل صورة حية يومية عن فلسطينيي غزة وقد «أفطروا» على حربين: الأولى دمرت أرزاقهم وأزهقت أرواحهم، والثانية، تركتهم في العراء العربي والدولي، بلا إعمار ولا استشفاء ولا أمل.

كأن فلسطين ثقل أزيح عن كاهل «عرب الأنظمة» وعن رعاع المذاهب والطوائف والاتنيات، في يوميات «الفتنة العظمى». في هذه المذبحة المدبرة بأيدي أهلها، في وضح النهار، لا مكان لفلسطين، ولو بصيغة «كيان ذمة»… المسألة، ليست في نسيان فلسطين، بل في التنكر المتعمّد لها، وسياسة التخلي المرغوب عنها.

تبدّت بسالة الممالك والإمارات و «الجمهوريات» المتبقية، في حروب داخلية بلا هوادة. استعصى عليها القتال في فلسطين. تمتعت بحكمة «السلام»… أبدت شجاعة نادرة في التوغل في العنف «الأخوي» إلى أقصاه وممارسته حتى آخر نقطة دم وآخر «حجر على حجر». من مآثرها، مذابح سوريا، تدمير اليمن، تقاسم العراق. من إبداعاتها، إحياء التوحش الديني والتكفيري.

هذه السردية لا تهدف إلى تعرية الأخلاق، بل إلى تعرية السياسات. ما ترتكبه أنظمة ومنظمات «الفتنة العظمى»، وليد شرعي لسياسات تصفية الحساب مع فلسطين. القتيل الرمزي والمقتول الفعلي في هذه المعارك هو فلسطين. فلسطين، لم تعد تطاق عند الأنظمة. تخلّت عنها بعدما وظفتها لغايات سلطوية… هذه الحروب تؤبّد قتلها. لم يعد يذكرها أحد. عواصم المشرق كلها، وعواصم العالم كله، مشغولة بنقل المنطقة إلى ما بعد فلسطين. منطقة، بلا قومية وبلا عروبة وبلا وطنية وبلا قضية وبلا أخلاق وقيم.

الخسارة الكبرى، هي فلسطين، بعدما احتلّت أدوات الفتنة الساحة التي تربّت فيها القضية الفلسطينية. عاشت فلسطين، برغم أنف الأنظمة وأدواتها القمعية، في الوجدان الشعبي، في ثقافة العربي، في أفق الأمة المفتوح على المستقبل، بالحرية والعدالة والتحرير. عاشت فلسطين كوطن ممكن لفلسطينيي الكيان في وجدان المواطن العربي، أكان سنياً أم شيعياً أم مسيحياً أم درزياً.

لا فوارق بين الشعب العربي وقضية فلسطين. لقد طبعت هذا العصر العربي. حروباً ونضالات وابداعات. ولا مرة، خرجت من الاهتمام والتداول، كمثل هذه المرة.

باتت فلسطين، شأناً إسرائيلياً بحتاً. لا تقبل «إسرائيل» بشريك معها. الصمت العربي مرحب به، والحرائق العربية منفوخ في لهيبها.

برغم المآسي، ما تزال فلسطين في موقعها تحت الاحتلال، تتمتع بصبر لا ينفد ورفض لا يتعب وبقاء لا يكلّ. والمدهش، أن القليل من فلسطين، ولد تحـــت الاحتلال، أفضل من هـــذا الكم الكثـــير حولها. ولا خـــوف عليها، إلا من عدوى انقساماتنا وأوبئة تمذهبنا.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى