من هو الأفضل لروسيا: أوباما أو رومني؟ (فيودور لوكيانوف)

 
فيودور لوكيانوف

كتب فيتالي تريتياكوف، وهو من أكثر الصحفيين والمعلقين السياسيين شهرة في روسيا، يقول الأسبوع الماضي في مجلته إنه يثق أكثر بأولائك الأمريكان الذين يعلنون على الملأ ودون مواربة أنهم لا يحبون روسيا، وذلك بخلاف أصحاب الدعوات إلى ما يسمى بـ "أعادة تشغيل العلاقات بين الدولتين"، التي لا تغير شيئا في طبيعة الموقف الأمريكي المتصلب أصلا تجاه روسيا على أرض الواقع. ومن هذا المنطلق يفضل تريتياكوف أن يصبح مرشح الحزب الجمهوري ميت رومني وليس الرئيس الحالي الديمقراطي باراك أوباما رئيسا جديدا للولايات المتحدة في الانتخابات الرئاسية القادمة في السادس من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.                
…ليس بإمكاني إعطاء تقييم دقيق لمدى انتشار وجهة النظر هذه في الأوساط السياسية أو القريبة منها في روسيا، لكن أستطيع الإثبات أن تريتياكوف، الذي كان قد أسس في حينه جريدة مستقلة معروفة تحت مسمى "نيزافيسيمايا غازيتا"،  ليس وحيدا في موقفه هذا في البلاد. ويدور الحديث بالدرجة الأولى عن أصحاب النظرات المحافظة في روسيا الذين يفضلون التعامل، تقليديا، مع الساسة الجمهوريين في الولايات المتحدة باعتبار قيادات الحزب الجمهوري واقفين المواقف البراغماتية المستقيمة والصريحة. وبالفعل من الصعب مجادلة أصحاب هذا الرأي فيما يخص استقامة الجمهوريين وصراحتهم، أما براغماتيكيتهم المعهودة فقد هز أسس الثقة بها بلا شك الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن خلال سنوات ولايتيه الرئاسيتين (2000 – 2008) الذي أطلق العنان للدعاية الإيديولوجية المسعورة وقتذاك.       
هذا وقد امتنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن الإدلاء بأي  تعليق على سير الحملة الانتخابية الجارية بين أوباما ورومني في الولايات المتحدة حاليا، مكتفيا بعبارة لبقة حول استعداده للعمل مع أي رئيس أمريكي منتخب. ولكنه أفهم أن تصريحات ميت رومني بشأن اعتبار روسيا "عدو أمريكا الجيوسياسي رقم 1" قد حفظتها موسكو على ظهر القلب، وإن لم تعطيها حتى الآن أهمية خاصة.
 وحسب الرأي السائد، تميل القيادة الروسية إلى الاعتقاد أن من الأفضل لها أن يحتفظ باراك أوباما بمنصبه الرئاسي لفترة أعوام 2012-2016 لسببين على الأقل، أولهما أنه يدرك تمام الإدراك أن العالم الخارجي المحيط بالولايات المتحدة قد طرأت عليه تغيرات كبيرة، وثانيهما أنه أظهر على وجه العموم قابليته لإدخال تصحيحات وتعديلات على المواقف الأمريكية. غير أن فترة ولاية أوباما الرئاسية الثانية – في حال فوزه بانتخابات السادس من تشرين الثاني/نوفمبر لن تكون كما كانت عليه الأولى بالنسبة لعلاقات الولايات المتحدة مع روسيا الاتحادية.    
ويظن محللون ومتابعون لطروحات البيت الأبيض الأمريكي أن سياسة أوباما تجاه روسيا ستكون أقل أدلجة بالمقارنة مع سياسات سابقيه في المنصب الرئاسي أو الطامحين لشغله حاليا. وستكون هذه السياسة خالية من رؤية احتمال إعطاء حجم كبير لدور روسيا ومن تعظيم مكانة العلاقات الثنائية معها على المدى البعيد، مع طرح صياغة دقيقة لمجموعة لا بأس بها من المهام المحددة التي يمكن لواشنطن التعاون مع موسكو لمعالجتها في الفترة القريبة القادمة. وإذ تدرك إدارة أوباما جيدا أن لديها إمكانيات محدودة للغاية لإنجاز تحولات ما فيما يتعلق بماهية روسيا وسياستها الداخلية والخارجية، ترى واشنطن أن من مصلحتها البحث عن أسلوب كفيل بتحقيق المصالح الأمريكية من خلال التفاعل مع موسكو كما هي وليس كما يرتئيها أحد حسب رغباته. وفي هذا السياق تبرز إدارة أوباما أهمية روسيا بالنسبة للولايات المتحدة والعالم ككل في طائفة كاملة من المسائل التي يتطلب حلها الحفاظ مع الحوار العملي والموضوعي مع الكرملين وإن كانت محدودة نسبيا.
وهنا لا بد من التذكير بأن باراك أوباما لدى توليه منصب الرئيس الأمريكي في كانون الثاني/يناير 2009 لم يكن يتصور أن موضوع روسيا سيحتل هذا الحيز الهام ضمن أجندة أنشطته الرئاسية مثلما حصل في حقيقة الأمر. بل وأكثر من ذلك، إذ وجد أوباما أن المساعدة الروسية ضرورية ومفيدة في عدد من الاتجاهات التي اعتبرتها إدارته ذات أولوية، ومن ضمنها أفغانستان، وإيران، ونزع السلاح النووي. كما تبين أن التوصل إلى تفاهمات وتوافقات مع روسيا ليس بالأمر العسير رغم كل التناقضات والخلافات وظاهرة انعدام الثقة الموروثة من الماضي، كما في ملفات الدول والقضايا الأخرى التي تشغل بال أمريكا.
 وهكذا أصبحت فكرة "إعادة تشغيل" العلاقات الأمريكية الروسية مثالا حيا ومقنعا لنجاح سياسة أوباما الخارجية،  وهدفا في الوقت ذاته لانتقادات حادة من قبل الجمهوريين، بطبيعة الحال! ومما لا شك فيه أن تصريحات ميت رومني حول "العدو رقم 1" تمثل تهجما ليس على روسيا بالذات التي لا تهم مرشح الجمهوريين كثيرا بقدر ما هي موجهة نحو سياسة أوباما الذي يطرح "إعادة التشغيل" في العلاقات الأمريكية الروسية باعتبارها إنجازا كبيرا أكيدا بين منجزات إدارته على الصعيد الخارجي. بعبارة أخرى، ليس لدى  رومني حاليا أي تصور عملي بشأن نهجه السياسي الافتراضي تجاه روسيا، فهو ببساطة شديدة لن يقترب من هذا الموضوع إلا في حال فوزه على منافسه الديمقراطي في الانتخابات القادمة. ومن الصعب جدا الآن التكهن بالطابع الفعلي لسياسة مرشح الجمهوريين تجاه روسيا لاحقا.
ولكن لا جدال في أن الرئيس الديمقراطي الحالي للولايات المتحدة يعتبر شخصية أكثر ليونة وعصرية من منافسه الجمهوري، وهو أقل رغبة في طرح شعارات إيديولوجية على بساط المناقشات مع الجانب الروسي. لكن هناك مشكلة تتمثل في كون فريق أوباما لا يملك أي جدول أعمال جديد في العلاقات الثنائية مع روسيا خارج إطار الأجندة السابقة المرتبطة بفكرة "إعادة التشغيل" التي أحرزت نجاحا نسبيا لا يمكن إنكاره بلا ريب. 
ومن المرجح أن تتجه نية أوباما على صعيد العلاقات مع روسيا في حال إعادة انتخابه رئيسا للولايات المتحدة نحو المفاوضات الجديدة حول مواصلة تخفيض ترسانات الأسلحة النووية الموجودة لدى الجانبين وبالدرجة الأولى التكتيكية منها، وكذلك صياغة واتخاذ خطوات جديدة للضغط على إيران، وتنشيط التفاعل الأمريكي الروسي في الشأن الأفغاني، علما بأن التركيز على هذه الملفات أثمر عن نتائج عملية في فترة 2009 – 2010. ولكن العودة إلى الملفات ذاتها في عام 2013 هيهات أن تكون ناجحة بنفس الدرجة السابقة.
ذلك أن مواصلة تقليص الترسانة النووية لا تدخل في خطة أعمال موسكو في السنوات القريبة القادمة، على الأقل، لأن مستواها الحالي يعد في نظر القيادة السياسية وخبراء  المؤسسة العسكرية في روسيا بمثابة ضمانة ضرورية كافية لأمن البلاد. كما أن موسكو لن تؤيد مزيدا من العقوبات الدولية بحق إيران خارج تلك التي كانت قد شاركت روسيا فيها حتى الآن، بينما ستؤدي حرب إيران في حال نشوبها إلى تشويه الصورة الحالية للمشهد الدولي بالكامل وإلى إثارة مخاطر جديدة كثيرة. وتبقى أفغانستان في القائمة المذكورة والتي تتطابق مواقف واشنطن وموسكو تجاهها حاليا ومستقبلا إلى درجة أكبر من أي ملف آخر في العلاقات الثنائية، ولكن نية الولايات المتحدة الحفاظ على تواجدها في هذا البلد وفي آسيا الوسطى جمعاء بأشكال مختلفة قد تتسبب في عدم الرضا لدى الجانب الروسي حتما.
 إن موقف أوباما "الميكانيكي" البراغماتي تجاه روسيا له وجهه المعاكس. صحيح أن الرئيس الأمريكي الحالي وعد نظيره الروسي السابق دميتري ميدفيديف بأن يكون لينا ومرنا مع روسيا (الأمر الذي يلوم الجمهوريون بسببه أوباما دون كلل وملل)، ولكن في تلك المجالات المعينة فقط حيث يمكن لروسيا أن تفيد أمريكا، حسب تصورات الأخيرة، مقابل إيجاد حلول وسط وعقد صفقات ضمن دائرة معينة من الموضوعات والملفات. غير أنه كرجل سياسة براغماتي حقا لا ولن يحاول تحديد مكانة روسيا في إستراتيجية أمريكا على المدى البعيد وفي تطور العالم في المستقبل على وجه العموم.
فقد قطع أوباما أشواطا أبعد من رومني بكثير بمعنى أنه أدرك وقائع التغييرات الجذرية التي حصلت في الحلبة الدولية وضرورة البحث عن أساليب وأدوات جديدة لضمان الزعامة الأمريكية في العالم. ولكنه شأنه في ذلك شأن معظم الساسة الأمريكيين لا يفهم ماهية هذه التحولات وما ستقود إليه لاحقا بالضبط.                                                        
مرة أخرى نقول إن مشكلة الديمقراطيين تتلخص في كونهم لا يملكون أجندة مغايرة تجاه روسيا، وهم يعقدون الرهان من جراء ذلك على مواصلة تطبيق نسختها السابقة. غير أن تكرار عملية "إعادة التشغيل" (إي القيام بحملة "إعادة التشغيل – 2") مع الإبقاء على محتواها السابق المماثل أمر مستحيل حاليا، بعد أن مرت لحظة تطابق المصالح الناجمة عن الموضوعات المنتهية. والمطلوب بالنسبة لمرحلة جديدة طرح رؤية جديدة، مثلا، حول وجوب إدراك تلك الحقيقة البديهية أن الفضاء التالي الصالح لبناء علاقات شراكة أمريكية – روسية في إطاره هو فضاء القارة الآسيوية.
 غير أن صانعي الإستراتيجية الأمريكية لا يرون أية مكانة لروسيا هناك على الإطلاق في الوقت الحاضر، ولا يعتبرونها أداة مفيدة لأمريكا في هذه المنطقة. يكفي القول لتأكيد ذلك إن اسم روسيا لا يرد ذكره من هذا المنظور في أي من الوثائق البرنامجية الخاصة بالسياسة الآسيوية للولايات المتحدة، وهو أمر غريب، فعلا، نظرا لوجود مشاكل متشابهة لدى الجانبين الأمريكي والروسي (ومنها ضرورة إيجاد رد على نمو العملاق الصيني وطرق التعاطي مع هذه "المشكلة") وكذلك كون روسيا إحدى الدول العظمى في منطقة المحيط الهادئ.
خلاصة القول إن فترة ولاية باراك أوباما الثانية في حال فوزه بمنصب الرئاسة في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل قد تصبح أكثر تعقيدا بالنسبة للعلاقات الروسية الأمريكية مما يمكننا أن نتصور حاليا.  

مجلة "روسيا في السياسة العالمية"

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى