مهنة الألم
مهنة الألم
بمناسبة يوم الشعر
تقول أسطورة هندية:
“كان هناك عاشقان. أراد أحد الآلهة أن تخدمه الفتاة. فرفضت أن تصبح خادمة. هرب بها حبيبها في قارب في “النهر العظيم” ولكن القارب تحطّم في الشلال، فتحولت الفتاة إلى صخرة يغمرها إلى الأبد رذاذ أبيض. والفتى أصبح شجرة، على الضفة، تقضي عمرها في انتظار أن ترى الصخرة في لحظة انحسار الضباب الأبيض الخفيف الذي يغمر الصخرة بالرذاذ”.
“ويقال إن البجعة ـ الطائر البحري الضخم ـ عندما تموت تتقلص رئتها الكبيرة، فتصدر، عبر العنق الطويل، صوتاً ممتداً طويلاً. ويسمون هذا الصوت: “الأغنية الحزينة الأخيرة للبجع”.
وفي أسطورة أخرى: كانت السماء تعشق الأرض. تقترب منها دائماً ومتزينة دائماً بالنجوم.
أراد العملاق الوحيد الموجود بينهما أن يفرقهما، في تمرين مجهول الدوافع، فرفع السماء قليلاً إلى أعلى. وعندما بكت من شدة الفراق ندم العملاق، فقتل نفسه وتناثرت أشلاؤه في الكون. ومن عضلاته صارت الجبال. ومن عروقه النهار. ولكن السماء ظلّت بعيدة… وظلت تبكي!
تدلّك الأسطورتان على الشيء الخفي الذي يدفع الشاعر إلى البحث عن مفقودات. وأعتقد أن الكثير من التجارب ما زالت، حتى هذه اللحظة، تتأمل نفسها لتكتشف (من وإلى) أين يذهب هذا الرعيل الطويل من الكلمات المؤلمة “الفقدان. الوحدة. الصمت الإلزامي. الأحلام. الحب؟ ولا تنسَ جرائم البشر وجمرة الضحايا.
كان الكاتب العظيم “كازانتزاكيس”، في لحظة ملهمة، قد اكتشف سبباً لما يكتبه، لاحقاً، طوال حياته:
“لقد عرفت جيداً، ومنذ سنوات، أن الطريقة الوحيدة لتخليصي من الألم الشديد أو الغبطة الشديدة، ولاستعادتي حريتي هي أن أسحر هذا الألم أو هذا الفرح بفتنة الكلمات …
في البلدان المدارية تخترق حشرة دقيقة كالخيط جلد الإنسان وتأكله. ثم يأتي طارد الأرواح فيعزف بمزماره السحري الطويل وتظهر الدودة المسحورة… تسترخي شيئاً فشيئاً وتخرج فيقتلها.
وهكذا هو مزمار الفن”
هناك مثل ساذج يقول “الماضي لا يريد أن يمضي” وأحد أهم عناصر التأمل في الماضي كونه اللحظة التي ذهبت آخذة معها شيئاً غير قابل للتكرار، وسوف يكون الماضي، الذي نحسه دائماً في الحاضر، هو المستودع، غير الموجود في مكانٍ محدّد لأفراح وأتراح الرحلة على هذه الأرض. وسوف “تستند قيمة الفن إلى كمية الماضي الذي يحمله في جوانحه” سائراً به كحدبة خفيّة بين كتفين!
“سانشو بانسا” ، وهو يقف على فراش موت صديقه “دون كيشوت” يتمتم: “إن أكبر جنون يمكن أن يرتكبه المرء هو أن يدَع نفسه يموت دون أن يقتله أحد، ودون أن يجهز عليه شيء من الحزن”.
إنني أتأمل تجربة الكتابة، الإبداع فأجد نفسي من المؤمنين بأن الشاعر (هويته التي يسير بها في الحياة) أهم من الشعر، وأعني بنية نفسه وروحه، وموقفه وطريقته في رؤية العالم.
الشعر صعب، بين الفنون، وربما كان “ريلكه” على حق عندما قال:
“إذا أردت أن تكتب سطراً شعرياً واحداً، يجب أن تكون قد زرت مدناً كثيرة، رأيت أشياء كثيرة. و… قطفت زهوراً كثيرة”.
والشعر لا ينبغي أن يؤجر، أو يرهن نفسه… أن يكون بطلاً على منبر، وصراخاً في الأموات. لا ينبغي أن يكون سلطة أو قريباً منها. فالمصالح لا تصنع شعراً، وكذلك إدارة الأكاذيب .