كتب

“مهنة العيش” الكلام من خارج الزمن

ترجمة جديدة يقدمها لنا صالح الأشمر لكتاب “مهنة العيش” للشاعر والروائي الإيطالي تشيزاري بافيزي.

الكتاب الذي صدر حديثاً عن “دار الجمل” ويقع في 500 صفحة من القطع الوسط، يتضمّن يوميات بافيزي التي كتبها خلال الــ 15 سنة الأخيرة من حياته (1935 – 1950) وأنهاها منتحراً بعد أيام من كتابة السطر الأخير من تلك اليوميات.

هنا لمحة عن حياة بافيزي ويومياته بقلم المترجم.

يعتبر تشيزاري بافيزي أبرز شاعر  وروائي إيطالي في النصف الأول من القرن العشرين. ولِد عام 1908 في قرية بالقرب من مدينة تورينو وبقي طوال حياته متعلّقاً بتلك المنطقة وطبيعتها وناسها. توفي والده وهو في السادسة من عمره فنشأ منطوياً على نفسه مولعاً بالكتب. أنهى دراسته الجامعية متخصصاً في الآداب وعمل في مجال النشر مدققاً ومحرراً وناشراً واهتم بترجمة الكتّاب الإنكليز والأميركيين، وكتب أطروحة تخرّجه من جامعة تورنتو عن الشاعر الأميركي والت ويتمان الذي كان له تأثير كبير على نتاجه الشعري.

ناضل بافيزي ضد النظام الفاشي وسُجن فترة بسبب ميوله السياسية المناهضة للفاشية. انتسب إلى الحزب الشيوعي ولم يمكث فيه طويلاً. عاش حياة شديدة الاضطراب وعانى من مشاكل عاطفية ومن عجز جنسي كثيراً ما ألمح إليه في كتاباته.

كما خاض تجربة غرامية مقلقة ومعذبة مع ممثلة أميركية كتب لها قصائد عديدة تتسم بالسوداوية والشعور بالنقص “سوف يأتي الموت ويأخذ عينيك”.

أصدر بافيزي أول مجموعة شعرية له بعنوان “عمل متعب” عام 1936 وأعقبها بمجموعات قصصية في الأربعينيات. وتتالت مؤلفاته ليفوز عام 1950 قبل أشهر من انتحاره بجائزة أدبية مرموقة عن روايته “الصيف الجميل”. وكان مولعاً بالعمل كأنه يعوّض به عن خيباته العاطفية وإحساسه بالفشل في حياة لم يشعر فيها بطعم السعادة. وقد صوّر أحد أصدقائه هوسه بالعمل قائلاً إنه كان “ناشراً لا يتعب ومراجعاً لا يرحم ومترجماً لا يخطئ”.

في 27 آب/أغسطس عام 1950، أي بعد 9 أيام من تدوين آخر سطر من يومياته (18 آب)،أقدم بافيزي على الانتحار في غرفة بفندق روما في تورينو. وقد وجِد على منضدة قرب السرير أحد كتبه وعلى صفحته الأولى مكتوب بخط يده “أُسامح الجميع،وأطلب السماح من الجميع. لا تُكثروا من الثرثرة”.

الواقع أن موضوع الانتحار كان الدافع الأساسي الذي حمل بافيزي على بدء هذه اليوميات التي ضمّنها زبدة أفكاره وآرائه الأدبية ومتابعاته لكتابات الآخرين ومواقفه النقدية التي يمكن اعتبارها مدرسة لا بد من ارتيادها لكل مهتم بالأدب مستهلكاً له أو منتجاً،كما أنه في استعراضه لأهم معالم تجربته الحياتية وسيرته الشخصية والأدبية إنما كان يفعل ذلك لكي يُقرأ بعد موته وكأنه لم يكتب إلا لهذه الغاية منذ اليوم الأول. وهذا ما يُفصح عنه متأخراً في نيسان/أبريل 1949 حيث يقول: “في الواقع ،أنت تكتب لكي تكون كالميت،لكي تتكلّم من خارج الزمن،لكي تجعل من نفسك ذكرى للجميع”.

وقد تبدّت فكرة الانتحار جليّة منذ البداية في عام 1935 من خلال اعترافه الصريح بأنه “رجل لا يعرف أن يعيش،ولم

يكبر أخلاقياً،رجل غير مجد،يستند إلى دعامة الانتحار لكنه لا يُقدم عليه”. ويقول في موضع آخر :”أعلم أنني محكوم دائماً بالتفكير في الانتحار إزاء أي أمر مزعج أو ألم. هذا ما يرعبني. مبدئي هو الانتحار… لن أقترفه أبداً، غير أنه يداعب إحساسي”. كان هذا تفكيره عام 1935 لكنه “اقترفه” عام 1950.

هذا القلق الوجودي وهذا الاضطراب والتردّد والإحساس المرَضي بالخواء واللاجدوى وهو في ذروة العطاء الأدبي والإبداع الفني والانشغال المحموم بإيجاد نظام للحياة والعمل، لدليل قاطع ومؤلم على عمق حالة التناقض التي عانى منها بافيزي طوال حياته.

في اليوميات نجد أن بافيزي مستنزف في البحث الدؤوب عن كيفية تنظيم الحياة والعمل وإعطائهما شكلاً ومعنى. ولذلك كان عليه أن يتحمّل جهد البحث عن التعايش مع قدره وعمله الأدبي. وهذا،كما يقول مارتان رييف في تقديمه لليوميات، جهد مزدوج ومتناقض بين التشظي والتوحّد، الوحدة التي تتبّعها في عمق أعماله كمهمة وحيدة قابلة لإضفاء معنى على سلوكه اليومي وحياته الأخلاقية والعاطفية ومشاريعه الأدبية، وفي الوقت عينه جهد التشظّي والارتداد نحو الشكل غير المحدّد حيث لا ينفكّ الحدس عن مواكبة القوة الأخرى التي تُحتّم عليه أن يعيش من دون أن يقاومه اليقين المعاكس الذي لطالما كان على وشك الانحلال.

ثم إن يوميات بافيزي لا تقتصر على رتابة الأحداث اليومية، فهو لا ينفكّ عن العودة إلى الوراء والبحث عن ترابطات

في الماضي. ولعلّ ميزتها تكمن في التكاثر غير المتوقّع للأفكار والتصوّرات التي تُعيّن على نحو تلقائي المسارات الكبرى لحياته الداخلية وحياته المفاهمية.

إنها يوميات مبنية على نظام ينسج داخل شبكة من الإحالات والتداخلات والتقاطعات والتنبيهات التي تسمح مع توالي الأيام،كما يقول ماريان رييف،بتخمين تماسك فكرةٍ وشاعرية،وجهد مبذول لإقامة بناء وتطلّب وحدة.

والعبرة في كل ذلك هي البناء بالفنّ والبناء في الحياة.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى