مواجهة على الطريقة التونسية
المواجهة بين الصائمين والمفطرين في تونس موضوع قديم ويتجدد، وقد سبق أن كتب الشاعر التونسي الراحل محمد الصغير أولاد أحمد مقالا يؤكد فيه أن الصائمين في تونس هم أقلية، وبناء على ذلك ينبغي احترام مشاعرهم من منطلق “التمييز الإيجابي”.
ويضيف الشاعر المحسوب على اليسار الفوضوي مستطردا، وبلغة ساخرة “لكن الأقلية الصائمة في تونس ما تنفك تفرض شروطها على الأغلبية الهائمة، واستبدت برأيها إلى درجة أنها شكلت نوعا من مراكز الضغط المؤثرة في سياسة الدولة التي لم تحسم أمرها في توضيح مهمتها: هل هي تحمي الشعائر والعبادات داخل دور العبادة أم في الشوارع والمقاهي، والتي تشهد نوعا من “محاكم التفتيش”.
شعيرة الصوم لا تنفرد بها الديانة الإسلامية لوحدها فلماذا لم نسمع عن مثل هذه الاختلافات في أقاليم مسيحية أو بوذية أو يهودية مثلا؟ ومن ناحية أخرى، وداخل العقيدة الإسلامية نفسها، هل يطلع هلال شهر رمضان في سماء تونس دون غيرها؟ فلماذا إذن تثار هذه المسألة بحدة أكبر وتشنج أكثر في هذا البلد الذي ينتقد سياسته في هذا الشأن الإسلاميون والعلمانيون على حد السواء؟
العارفون بالمجتمع التونسي يقرون بوجود هذه الخصوصية المتعلقة بالحدّة حينا والجمع بين المتناقضات أحيانا أخرى لدى الذهنية التونسية، ذلك أن الأمر لا يتعلق بحالة تديّن بقدر ما يتعلق بنوع من التعصب لتقليد اجتماعي ثقافي نفسي.
ومن جهة أخرى فإن البعض من المراقبين يرون في مجرد طرح هذا الموضوع “حالة صحية”، تعكس وعيا من منظمات المجتمع المدني بضرورة الحسم عبر تشريع أو تفعيل نصوص قانونية واضحة، وذلك منعا للالتفاف حول أعراف وقوانين، ومن ثم تجييرها لصالح طرف على حساب آخر كما يجري في تركيا التي بدأ نظامها الإسلامي بتحويل وجهات بعض القوانين العلمانية لحساب الأيديولوجيا الإخوانية.
وينبه حقوقيون في تونس إلى أن الأمر يتعلق في جانب كبير منه بإشكال قانوني يتمثل في الاستمرار بالعمل بمنشور 1981 عهد رئيس الوزراء الأسبق محمد مزالي، الذي كان قد بدا وكأنه في طرف نقيض مع الزعيم بورقيبة القائل بداية سنوات الاستقلال بجواز إفطار رمضان بالنسبة للعاملين تحت ظروف طبيعية صعبة. ويرى هؤلاء الحقوقيون أن الحل الأنسب هو إحداث قانون يتماشى مع دستور 2014 ويكون الإطار الأمثل لإنهاء جدل يساهم في تقسيم التونسيين كل عام.
ومن هؤلاء الحقوقيين وغيرهم في تونس من يساند ما ذهب إليه وزير الداخلية التونسي لطفي براهم في ما يخص الإجراءات المشددة حول السماح بفتح مقاه معينة دون غيرها، وتمثل ذلك في قوله إن وزارته قامت بحماية اليهود التونسيين في زيارة معبد الغريبة في جربة من كل التهديدات، فمن واجبها أيضا حماية شعائر الأغلبية من التونسيين في شهر رمضان.
ويرى مراقبون أن خطأ المحتجين من المدافعين عن المفطرين يتمثل في أنهم وقعوا في خلط منهجي يتعلق بسلّم أولويات مطالباتهم، وشوهوا بعض وقفاتهم الاحتجاجية بشعارات ويافطات وحركات استفزازية من شأنها أن تهيّج بعض الصائمين البسطاء، والأفراد الغريزيين الذين ينظرون إلى الصوم كمجرد امتناع عن حاجات بيولوجية، وهو ما يجيب عن السؤال آنف الذكر والمتعلق بالفارق بين صوم الإسلاميين وصوم غير الإسلاميين من أصحاب العقائد الروحية المحضة في المذاهب الأخرى.
وقال منتقدون للوقفة الاحتجاجية التي نظمها وشارك فيها الأحد الماضي، أفراد ومنظمات من المجتمع المدني، إن بعض أساليب الاحتجاج لم تكن مقنعة، بدت استفزازية وغير مدروسة، وأدت إلى عكس ما تريد إيصاله، خصوصا تلك الطرق التي وصفها أحد المنسحبين من الوقفة الاحتجاجية بأنها “صبيانية”، وذلك في معرض تعليقه عن طرق شرب الماء والأكل والتدخين أمام الصائمين تحت حر الشمس، بالإضافة إلى الثياب التي ارتداها بعض الشبان والشابات، والتي وصفها بأنها “غير محتشمة”.
ويقول محسن المعلمي، وهو محام، إنه يساند مثل هذه الاحتجاجات من منطلق الإيمان بحرية المعتقد، لكنه يضيف أنه يقدر الخصوصية المجتمعية لرمضان التي تنتعش فيها الأنشطة الترفيهية بالليل، ويتابع أنه يجب عدم المبالغة، فبعض المقاهي شبه مفتوحة. غير أن المحامي الشاب يحتج على التمييز بين المقاهي السياحية التي يسمح لها بالعمل، وبين المقاهي الشعبية التي يحرم أصحابها وعمالها من الدوام الكامل طيلة هذا الشهر الذي تثقل مصاريفه كاهل العائلات.