كتب

مواجهة مع الموت ثلاث مرات يوميا على مائدة هتلر

مواجهة مع الموت ثلاث مرات يوميا على مائدة هتلر… تخيل للحظة طاولة موضوعة بشكل جميل، مع أطباق خزفية بيضاء مليئة بالطعام الرائع. تخيل فاصوليا خضراء متبلة بالزبدة المذابة والرائحة المسكرة للفلفل المشوي وقوام فطيرة التفاح والخبز الطازج. عند النظر، ستجد عشر شابات يتضورون جوعا على وشك البدء في تذوق الطعام قبل أن يُقدّم لـهتلر لتناوله.

إننا في مقر هتلر خريف سنة  1943؛ والحرب العالمية الثانية محتدمة، حيث كان هتلر منعزلاً في “وكر الذئب”، ملجأه الواقع في بروسيا الشرقية، مُحاطاً بدائرة من الأتباع الأوفياء، ومحروساً بحامية غفيرة من القوات العسكرية الخاصة. وخوفاً من أن يُدسّ له السم في الطعام، وظّف قسراً عشر نساء ألمانيات ليتذوّقن طعامه قبل أن يُقدّم له. من بين هؤلاء الذائقات نجد الراوية، شابة برلينية تبلغ من العمر 26 عاما تُدعى روزا.

إنهن متذوقات الفوهرر اللاتي يتعين عليهن الانتظار لمدة ساعة حتى يستبعد الحراس أن يكون الطعام قد تسمم. في الجو الغامض لهذه المأدبة الفاسدة، التي يمكن أن تكون دائمًا الأخيرة، تقيم الشابات والجنود الذين يحكمون الثكنات تحالفات غير عادية، ولكن هل هناك شيء غير عادي عندما نعيش على الحافة؟

إن قصة رواية “ذائقة طعام هتلر” للكاتبة الإيطالية روزيلا بوستورينو، والتي ترجمها للعربية محمد التهامي العماري، وصدرت عن المركز الثقافي العربي، مستوحاة من القصة الحقيقية لمارغوت وولك، إحدى متذوقات هتلر، التي قدر لها أن تنجو دون زميلاتها من القتل على يد جنوده، هذه المرأة التي ماتت في السادسة والتسعين من العمر ولم تكشف عن أسرارها إلا قبل فترة وجيزة من رحيلها، حتى أن الروائية لم تتمكن من رؤيتها حيث عاجلتها المنية بعد أن عثرت على عنوانها في برلين.

تدور أحداث الرواية انطلاقا من راويتها روزا هذه المرأة الشابة التي يتركها والدها وزوجها، هذا الزوج الذي يقاتل في الخطوط الأمامية لقوات هتلر ولا تعرف إن كان حيا أو ميتا، تغادر برلين التي مزقتها الحرب لتعيش مع أهل الزوج في الأرياف، معتقدة أنها ستجد الملجأ هناك. ولكن ذات صباح تأتي قوات الأمن الخاصة لإخبارها بأنها قد تم تجنيدها لتكون واحدة من متذوقات هتلر؛ ومن ثم تحمل إلى مقره السري.

بمجرد دخولها للمقر السري لهتلر، تواجه روزا عنف الحرب والتاريخ. إنها تعيش داخل متاهة، وعلى الرغم من ذلك تمسك برغبتها على تذوق كل شيء، بما في ذلك الجنس الممنوع، في انتظار الزوج الذي قد يعود وقد لا يعود: امرأة تريد أن تشعر على قيد الحياة.

تقول “امتصّ جسدي طعام الفوهرر، وصار بذلك يجري في دمي. لقد نجا هتلر، أما أنا فشعرت بالجوع من جديد”. إنها رواية عن الحب والجوع والبقاء والاستياء. تروي روزا، سوء المعاملة الذي عانته ورفيقاتها من حرس هتلر الخاص، والمعاناة التي كانوا يعانونها في غرفة الطعام، تقول “لقد كان كابوساً ، لقد بكت النساء خوفاً من التعرض للتسمم”.

هؤلاء النساء اللاتي يتذوقن ثلاث مرات في اليوم، كن كل يوم مضطرات إلى الموت حتى يختبرن أطباق هتلر بحثًا عن أي سم محتمل. وذلك في مناخ من الإكراه والقسوة، هؤلاء النساء العشر يصبحن صديقات ولكن أيضًا متنافسات، ويشكلن تحالفات ويخن بعضهن البعض، ويشعرن بالخوف والوقوع في الحب. وعلى الرغم من كل ذلك الاضطراب، فإن مشاعر الرغبة لديهن لا تتركهن أبدًا، لأن الشعور بالرغبة هو أن يظل إنسانًا.

ومن جهة أخرى تعيش روزا ورفيقاتها في المنطقة الرمادية الواقعة بين الرفض والقبول لما يفعلنه. تعرف روزا، كما تعلم رفيقاتها جميعًا، أن أفعالهن ترقى إلى مستوى التعاون، لكنهن يدركن أيضًا الامتياز الممنوح لهن من خلال رواتب ثابتة وثلاث وجبات كاملة في اليوم. يبدو أن روزا خاصة، تجد نفسها منغمسة في الرمادية، على الرغم من أنها تدرك تدريجيًا أنه يجب عليها أن تأخذ في الحسبان الآثار المترتبة ليس فقط على أفعالها، ولكن أيضًا على استعدادها لمواكبة نظام قاس وفاسد، إنها ليست متأكدة مما إذا كانت ضحية أو متعاونة.

إن رواية بوستورينو تستكشف أسئلة معقدة وصعبة: متى تصبح محاولة الحفاظ على البقاء فعلًا من أفعال الذنب؟ هل نتحمل المسؤولية تجاه من نعرفهم أم الذين نحبهم فقط؟ هل من المقبول دعم نظام قاس وشرير؟ وهل عدم وجود خيار – أو خيارات قليلة – مبرر لأي إجراء؟ بالنظر إلى تجاربها، لا تجد روزا إجابات بسيطة. لكن السرد الرائع للروائية ينصف الطبيعة المعقدة لأوقات الحرب والتواطؤ وعواقب الحصول على كسرة الخبز مع ـ ومن أجل ـ العدو.

تلفت الروائية الإيطالية إلى أن “كل الطعام الذي يمر عبر فم هتلر كان لذيذًا؛ أطعمة أصلية تضمنت فواكه غريبة والتي كانت فخمة في الوقت الذي كان فيه الشعب الألماني يتضور جوعًا في خضم بؤس الحرب. إن تجربة الأكل، على أي حال ، لم تكن أبدًا هي نفسها بالنسبة للسيدة مارغوت وولك بطلة القصة الحقيقية، وفقًا لأولئك الذين عرفوها في سنوات ما بعد الحرب في برلين، حيث عاشت”.

وتضيف “في خضم هذا الرعب الذي كانت متذوقات هتلر يعشنه، كان هناك مجال للرومانسية المحرمة. “لا يكون الحب ممكنًا في أوقات الحرب فحسب، بل إن الحب وحده هو الذي ينقذنا” كما قالت مارغريت دوراس، يمكننا أن نشعر بالحب في أي وقت وفي أي مكان، ويكاد يصبح الشكل الوحيد لتبرير الفردية ضد جماعة النازية”.

مقتطف من الرواية

بعد ساعات من الانتظار قضيناها واقفات في الممر، دخلنا تباعا الواحد تلو الأخرى. كنا نشعر بالحاجة إلى الجلوس. القاعة واسعة، ذات جدران بيضاء، تتوسطها مائدة خشبية طويلة طويلة نصبت من أجلنا. أشاروا لنا بالجلوس.

جلست شابكة يديّ على بطني وقد أخذ مني الجوع مأخذه، وأمامي وضع طبق خزفي أبيض. كنا عشر نساء. فعلت الأخريات مثلي من دون ضجة. بعضهن جلسن مستقيمات على نحو متصلب، شعرهن مشدود تعلوه كعيكة، بينما مضت أخريات يحدقن حولهن. أما الفتاة الجالسة قبالتي، فرحت مضت أخريات يحدقن حولهن. أما الفتاة الجالسة قبالتي، فراحت تقضم الجلد الميت حول أظافرها، وتمزقه إربا بين قواطعها. تظهر على وجنتيها الغضتين أعراض مرض الوردية. هي أيضا جائعة.

كنا نتضور جوعا رغم أن الساعة لم تتجاوز الحادية عشر، ليس بسبب جو الريف ولا بسبب السفر بالحافلة. مضت سنوات ونحن نعاني من الجوع والخوف. ولما نفذت رائحة الطعام إلى خياشيمنا، شرع الدم ينبض في صدوغنا، واللعاب يجري في أفواهنا. نظرت إلى الفتاة ذات الوجنتين المحمرتين، فلاحظت أن شهيتها للطعام لا تقل عن شهيتي.

كانت الفاصولياء الخضراء الموضوعة أمامي مزينة بقطعة زبدة، زبدة لم أذق طعمها منذ زواجي. ودغدغت رائحة الفلفل المشوي الذي يملأ صحني أنفي، فلم أستطع تحويل بصري عنه. أما صحن جارتي الجالسة قبالتي، فكان به أرز وبازيلاء.

سمعنا أحدهم في زاوية القاعة يقول بنبرة هي بين الدعوة والأمر: “كلن!”. كانت شهيتنا للطعام بادية في عيوننا وأفواهنا المفتوحة وأنفاسنا المتسارعة. ترددنا. لم يتمن لنا أحد شهية طيبة، ومع ذلك وددت لو أقوم فأشكرهم وأعتذر. الدجاجات سخية هذا الصباح، بيضة واحدة تكفيني اليوم.

أحصيت الجالسات إلى المائدة. كنا عشرا. وجبتنا إذا لا تشبه في شيء عشاء المسيح الأخير.

لما كرروا من زاوية القاعة “كلن!”، كنت قد مصصت حبة فاصولياء، وشعرت بالدم يتدفق في جذور شعري وأصابع قدمي، وبدقات قلبي تتباطأ. أمامي نصبت مائدة وغريماتي جالسات قبالتي، نصبت مائدة خشبية عارية، من دون غطاء، عليها أوان بيضاء، وحولها عشر نساء: كنا نبدو بلباسنا الذي يخفي أجسادنا مثل راهبات منذورات للجلوس بصمت في قاعة الطعام.

جميع الفتيات كن يبكين مثل تماسيح متخمة. أهو الهضم؟ من يدري؟

في البداية كنا نتناول لقيمات كما لو أننا لسنا مجبرات على التهام كل ما أمامنا، كما لو أننا نستطيع أن نرفض هذا الطعام، هذه الوجبة التي لم تحضر من أجلنا، والتي فرضت علينا بالصدفة. الصدفة وحدها هي التي شاءت أن تجعلنا جديرات بمقاسمته حياته اليومية. ثم ينزلق الطعام عبر الحلقوم لكي يحط في هذا التجويف الذي هو المعدة. وبمقدار ما كان ذلك التجويف يمتلئ ويزداد اتساعا، كنا نحكم القبضة على شوكاتنا. وقد كانت فطائر التفاح من اللذة بحيث اغرورقت عيناي بالدموع، ورحت أملأ المعلقة أكثر فأكثر، وأبلع اللقم تباعا إلى أن اضطررت، على مرأى من غريماتي، إلى التراجع برأسي إلى الخلف والتقاط أنفاسي.

كانت أمي تقول إن الإنسان يأكل لكي يقاوم الموت. كانت تردد هذا قبل هتلر، حين كنت أذهب إلى المدرسة الابتدائية الموجودة في شارع 10 برونستاين ببرلين. كانت تعقد شريطا حول وزرتي وتنصحني بالحذر من الاختناق في مطعم المدرسة. ذلك أنني كنت أتحدث طوال الوقت في المنزل، حتى لما يكون فمي ممتلئا. كانت تقول لي: يا لك من ثرثارة! فأضحك حتى أختنق من نبرتها الحزينة ومبادئها التربوية القائمة على تخويفي من الموت اختناقا، كما لو أن كل حركة نأتيها تهددنا بالهلال: الحياة في نظرها محفوفة بالمخاطرة، والعالم مصيدة كبيرة.

بعد الفراغ من الأكل، اقترب منا عنصران من الشرطة العسكرية، فقامت المرأة الجالسة إلى شمالي واقفة. بادرها أحدهما:

ـ لا تقومي! الزمي مكانك!

تركت نفسها تسقط على المقعد كما لو أنها عالجاها بضربة مفاجئة. انفلتت من الدبوس إحدى ضفيرتيها الملويتين في شكل كعيكة وتهدلت تهدلا خفيفا.

ـ إلزمن مقاعدكن. ستبقين جالسات بصمت إلى إشعار آخر. إذا كان الطعام مسموما، سيظهر مفعوله سريعا.

وراح عنصر الشرطة العسكرية يتفرسنا واحدة واحدة مترصدا ردود أفعالنا. وحين لم يلاحظ شيئا على وجوهنا، توجه من جديد إلى تلك التي قامت، وكانت ترتدي فستانا تقليديا، ربما بغرض إظهار إذعانها، وقال:

ـ اطمئني، لن يتجاوز الأمر ساعة واحدة. بعد ساعة ستسترجعن حريتكن.

علق حارس آخر:

ـ أو تفارقن الحياة.

وشعرت بضيق في صدري. ذلك أن الفتاة ذات الوجنتين المحمرتين أخفت وجهها بين راحتيها ومضت تغالب النحيب، فنهرتها المرأة السمراء الجالسة بجانبها متوعدة بصوت مخنوق:

ـ ألن تكفي؟

لكن جميع الفتيات في تلك الأثناء كن يبكين مثل تماسيح متخمة. أهو الهضم؟ من يدري؟

قرأت يوما في إحدى الروايات أن الصمت داخل الأسرة الألمانية لا يوازيه صمت بين الأسر في العالم. بعد نهاية الحرب، لم أستطع الكشف عن أنني اشتغلت لدى هتلر: كنت ربما سأؤدي حياتي ثمنا لذلك. لم أخبر حتى غريغور. ليس لأنني لم أكن أثق به، فأنا أثق به طبعا، بل لأنني كنت عاجزة عن أن أصف له مطعم كراوزندورف دون أن أحكي له قصة أولئك اللواتي كن يأكلن معي: شابة ذات وجه محمر، وامرأة بارزة الكتفين، وذات لسان متدل، وأخرى أجهضت، ورابعة تعتبر نفسها عرافة، وخامسة يهودية، وسادسة تقضي يومها كله تلهج بأسماء ممثلات السينما. كان عليّ أن أحدثه عن ألفريد، وعن خطئي. ذلك الذي يفوق كل الأخطاء الأخرى في قائمة الأسرار. ما كنت أستطيع أن أعترف له بأنني وثقت بضابط نازي، ذلك الذي بعث بها إلى معسكر الاعتقال، ذلك الذي أحببته. لم أحدثه عن شيء من كل ذلك، ولن أحدثه. كل ما تعلمته من الحياة، هو أن أحافظ على بقائي.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى