موبايل
بضياع الموبايل تصبح وحيداً، وفي مكان لا يستطيع أحد مساعدتك. فالأرقام هي في الجهاز وليس في الدفتر. وأدوات المساعدة وعناوين المعينين، الآن، في يد شخص مجهول.
بدأت بإحصاء خسائري، التي أولها ثمن الموبايل بحدود مائة دولار، وثانيها الصور، وهنا يحتاج الأمر إلى صياغة لائقة للأسف على الذكريات البصرية، وصور الأصحاب والمناسبات، وثمة صور تسجيلية لبشر في أقفاص الدجاج كملاذ آمن. وصور لساكني الحدائق، وصور لتفاصيل أخرى أكثر مأساوية. وطبعاً هناك صور خراب من أماكن متعددة…
الرسائل… بدأت أتذكر أهميتها، وخصوصيتها، ومناسباتها، ويبدو أن الذاكرة أسعفتني بالنسيان.
في الجهاز العجيب أرقام وحسابات، وأعياد ميلاد، وتواريخ نكبات، ومسودات مقالات، وقصص، وثمة أشعارنادرة عصية على الحفظ، وهجائيات، وبدايات قصائد، وكتب، ومختارات موسيقيه ، وفي الحقيقة، هذه خسائر غير قابلة للتعويض، و بقائي دون أرقام وهاتف… كان نوعاً من العمى، فبقيت في البيت.
بحثت عن الجهاز الذي استعملته قبل أن أتلقى الجهاز الضائع كهدية في يوم ميلادي، واستطعت استرجاع بعض الأرقام. وبدأت أتعود على ضغط الأصابع على المفاتيح بدلاً من لمسها. وعلى جهاز بحجم بسكوته بدلاً من رغيف. وبدأت اتفلسف :
الجهاز وكل ما فيه لا يعادل فقدان فردة حذاء مفقودة لسوري في الوحل وهويجر اولاده و يعبر الحدود لينجو.
الصور والذكريات وتاريخك لا أهمية له أمام صورة الطفل “إيلان”قذفته الامواج ، في يوميات العذاب السوري التي لا تنتهي، فكيف يؤرقني فقدان محفظة ألكترونية يمكن تعويضها، ويجعلني أمرّ بلحظات غضب على النسيان. فقد نسيته في مقهى، وحين عدت لم يعترفوا به، وأظن أن أحدهم قد أخفاه. وأحد الأصدقاء عرض علي أن أشكوهم للأمن أو الشرطة، ففضلت الخسارة على ما يمكن حدوثه لهؤلاء من أذى وعنف ليعترفوا بسرقة قد لا يكونون مرتكبيها، وقد توجه إليهم تهمة إرهاب وداعش ونصرة….الخ .
حتى اليوم الثالث…كنت مضطرباً ولا أعرف كيف أتدبر العديد من الاتصالات والحوارات وإرسال مواد للنشر…ولم ينفع أسلوب المقارنة بين كوارث الآخرين وخسائرك. وأعتقد أن قدرتنا على التحمل، بمرور الوقت، تناقصت بدلاً من أن تزيد، والعام يدخل في الخاص، والجماعي يصبح فردياً، ومن هنا تبدأ انهيارات القيم : “كل شيء يغلو ثمنه ولكن تنخفض قيمته”. وهكذا …في الحيز المعنوي تتألم لضحايا متفجرة قتَلَت، وخرّبت، وراح ضحيتها أماكن سكن ومحلات عيش، ومن بينها محلات موبايل مزدحمة بعشرات الأجهزة…
ولكن، مع ذلك، ثمة موبايل يخصك ، لم يعد معك ،لايرنّ لك:
هكذا تتحول الشيفرات النفسية عند ساكني بلدان الكوارث. هكذا تورث الامراض.
ـ “يا للحقارة…”
قلت له…
فقال لي:
اسمع…تذكرت هذا البيت من الشعر، كتبته في مذكرات الموبايل:
نفسي التي تملك الأشياء ذاهبةٌ فكيف أبكي على شيء إذا ذهبا
لقد مات الموبايل، نهائياً ،في تلك اللحظة !