موته ليس مقنعاً ( نصري الصايغ)

 

 نصري الصايغ

 


موت محمد دكروب ليس مقنعاً. يعبر العمر بخفة اللحظة، كأن الزمن يجانبه ويتجنب روحه. هو دائماً على موعد ما. لا يتوقف أبداً عند عطب جسدي، تليه أعطاب، ينوء الجسم تحتها، ولا تصاب روحه بنأمة يأس. راهن هو، في الآن، عتيق هو، كرمز السنديانة الحمراء، ومقيم دائما في الأفق، وتعجب عندها وتتساءل: من أين لهذا الرجل كل هذا الشباب.
كان يمازحني، كلما سألته عن صحته. يبالغ في اعتداده الرجولي، وبرغم رجفة ترافق صوته، ما كانت ذراعه تلتوي ولا كان قلبه يتهدج ولا كان عقله يستقيل… كلما التقينا، حدثني عن مشروع. كلما انتابني يأس، وهو إدمان عندي، كان يضحك ملء عينيه. كأنه كان ينبهني وهو يسخر مني ومن هشاشتي، بأن «الموت ليس نعساً».
حزبي لا يكلُّ. يعرف أوجاع الحزبية ويتألم بابتسام. قلّما كان يجرِّح. كان من صنف الرهبان المؤمنين بالشيوعية، ولو من دون صلاة. حزبه أصيب، وظل هو متعافيا. الثقافة ضمرت، ظل منتجاً ومحرضاً. ولما أقفلت أبواب الثقافات والمجلات، افترش «الطريق» ودعا المفكرين والمثقفين والفنانين والإعلاميين لصحبة الحبر والكلمة. أعاد لـ«الطريق» دربها. لا تقفل الطريق، إلا إذا خلا الفكر من المغامرين، وبات المتسكعون أسياد الرقص بقدم واحدة.
موت محمد دكروب ليس مقنعاً أبداً. إذ لا يمكن أن تخلو الساحة من رجل، هو بعرف عدد كبير من عارفيه ومحبيه، «الحزبي الأخير» أو «الشيوعي الأخير» أو «الملتزم الأخير» أو آخر الذين يرون أن بإمكان الفقراء أن يكون لهم منبر وأن يكون لديهم أمل أو أن تبقى لهم قضية، تستحق أن نتألم من أجلها وأن نفرح بها.
ظلم كبير أن تصاب الحزبية في لبنان بهذه الخسارة. ظلم للعقائد أن تفقد ملتزماً حراً، ظلم للشيوعية أن يكون هذا الجندي آخر من التزم بالصف فانتظم والتأم وانسجم، على اسم بنّاء، وليس على نقّ هدام.
لم أكن شيوعيا، ولكني كنت حزبيا، آثرت حريتي على حزبيتي. بل فضلت فوضاي على انتظامي والتزامي. فشلت في أن أكون راهباً، عندما نذرت سنوات من عمري، كي أكون في السلك. كما فشلت في أن أكون حزبيا. أية فضيلة حلّت في محمد دكروب، ليبدأ مشواره الفذ، من السنكرية إلى المطبعة إلى الصف، إلى التصحيح إلى التفكير إلى الكتابة إلى السياسة إلى أن يصبح بذاته، ورشة تضج بالإنجازات. من يطيق أن تبلغ من العمر عتياً، وتبقى على موعد دائم مع العمل والأمل.
هذا نمط من الرجال الذين يكون موتهم خطأ فظيعاً. إنهم من نسيج رجال أرنست همنغواي في «الشيخ والبحر». تمر بهم العواصف، فيتمايلون كالقصب، وينتصبون كالسنديان. إنهم من رعيل سبقه فيه كثيرون من الرواد… فمن سيأخذ مكانه غداً؟
لا أحد؟
محمد دكروب… يُفتقد.. بعده فراغ لا يسده ركام في نفوس مدمرة وعقول بائسة… يفتقد، ايضا كصديق، لا يكف عن المرح والأقوال الملاح والاستعادات الغزلية البيضاء، واستحضار الرواد الذين عرفهم وكتب عنهم وأنصفهم.
لذلك كله… ألوم محمد دكروب كثيراً، لأنه مات.
ما يغفر له هذا الخطأ، أن لموته معنى، نفتقده في حياة كثيرين ممن ما زالوا على قيد الحياة.
لذلك كله نقول له: كلما تذكرناك، ابتسمنا لك، أيها الأخير الخميل.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى