موسكو وواشنطن بين سوريا وأوكرانيا

بعد يوم واحد من إعلان الرئيس الروسي عن سحب جزئي لقواته من سوريا في الرابع عشر من مارس / آذار الحالي، أصدرت الخارجية الأميركية بياناً بمناسبة قرب حلول الذكرى الثانية لانضمام القرم وسيفاستوبول إلى روسيا، أكدت فيه تمسك الولايات المتحدة بوحدة واستقلال أوكرانيا. وأكد البيان أيضاً أن العقوبات المفروضة على روسيا ستستمر طالما أن «الاحتلال الروسي» مستمر لشبه الجزيرة. ودعت واشنطن روسيا إلى إنهاء احتلالها وإعادة القرم إلى أوكرانيا. وبذلك تجدّد الولايات المتحدة إصرارها، مرة أخرى، على ربط إلغاء العقوبات المفروضة على روسيا بهذه المسألة، حيث إنها لا تعترف بالاستفتاء الذي جرى في شبه الجزيرة في 16 آذار 2014، والذي بموجبه عادت القرم الى الاتحاد الروسي. ولم تتوقف الولايات المتحدة عند هذا المطلب، إنما أعربت عن قلقها مما أسمته «الملاحقات الحالية للأقليات القومية والدينية» في شبه الجزيرة، خاصة تتار القرم والأوكرانيين، من قبل السلطات الروسية، متهمة موسكو كذلك بعرقلة عمل وسائل الإعلام المستقلة والمنظمات غير الحكومية ومنع المراقبين الدوليين من زيارة القرم.

وقبل ذلك، وتحديداً في الثالث من الشهر الحالي، أعلن الرئيس الأميركي بارك أوباما تمديد العقوبات المفروضة على عدد من الشخصيات الرسمية الروسية في 2014 بسبب ضم القرم والأزمة الأوكرانية لمدة عام آخر. وتشمل هذه العقوبات حظر سفر هذه الشخصيات إلى الولايات المتحدة وتجميد أصولها وأصول مؤسسات روسية عدة. وفي نهاية شباط الماضي، حذّرت السلطات الأميركية البنوك الأميركية الكبرى من شراء سندات حكومية روسية بنحو ثلاثة مليارات دولار. وكانت الحكومة الروسية قد أعلنت عن نيتها طرح سندات حكومية روسية في الأسواق الدولية بغرض سد جزء من عجز ميزانية الدولة لعام 2016. واعتبرت واشنطن أن مساعدة البنوك الأميركية روسيا في الاقتراض من الأسواق الدولية لسد عجز ميزانيتها بمثابة مخالفة لسياسة العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو. وانضمّ الاتحاد الأوروبي إلى واشنطن، وحذرت البنوك الأوروبية الكبيرة كذلك من مساعدة روسيا في طرح وبيع هذه السندات. واقتصر ردّ فعل الكرملين على الموقفين الأميركي والأوروبي من السندات الحكومية الروسية على تصريح لدميتري بيسكوف المتحدث الصحافي للرئيس الروسي، قال فيه: «نحن لا نملك إلا التعبير عن الأسف، لأن تضييق مجال التعاون الاقتصادي عبر الضغط السياسي غير مقبول وغير مفهوم من وجهة نظر التفكير والمنطق السليم».

إن الحكومة الروسية، في محاولاتها التغلّب على الحصار المالي المفروض عليها من قبل الغرب بسبب القرم والأزمة الأوكرانية، وضعت في خططها العمل على تغطية قسم من عجز الميزانية عبر الاقتراض الخارجي بواسطة طرح سندات حكومية يُطلق عليها «السندات الأوروبية» في الأسواق الدولية. ويرى خبراء روس أن احتمال فشل الحكومة الروسية في مساعيها بشأن طرح هذه السندات في الأسواق الدولية قد يزيد من العزلة المالية لروسيا. يُذكر أن المرة الأخيرة التي طرحت فيها روسيا سندات حكومية من هذا النوع، كانت في العام 2013 بمبلغ سبعة مليارات دولار. ومن المعروف أن الميزانية العامة الروسية للعام الجاري 2016، ترى ضرورة الاقتراض الخارجي لمبلغ ثلاثة مليارات دولار كأحد أساليب تغطية العجز في هذه الميزانية، ذلك العجز المُقدر بنحو ثلاثين مليار دولار على أساس سعر 50 دولاراً لبرميل النفط، أي بنسبة ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الروسي. ولكن سعر البرميل حالياً هو أقل من ذلك، ومن ثم فإن مبلغ العجز المذكور قابل للارتفاع بحسب توقعات وزير المالية الروسي نفسه. ولذلك نرى الحكومة الروسية تسعى سعياً حثيثاً، في الوقت الراهن، للاتفاق مع دول منظمة «الأوبك»، وفي مقدّمتها المملكة العربية السعودية، ومع غيرها من الدول المُصدّرة للنفط خارج هذه المنظمة، على سياسة لإحلال الاستقرار في أسواق النفط العالمية تضمن ارتفاع الأسعار.

ويرى خبراء روس أنه في ظل الأسعار المنخفضة للنفط، وفي ظل التشكك في تغطية عجز الميزانية عبر عوائد خصخصة بعض الشركات الروسية الكبرى وغير ذلك من المصادر الداخلية، يمكن اعتبار أن الاقتراض من الخارج عبر طرح سندات حكومية روسية بالعملة الصعبة مهماً بالنسبة إلى السلطات الروسية. ويبدو أن الحكومة الروسية لا تفقد الأمل من بيع سنداتها في الأسواق الدولية برغم إغلاق الأسواق المالية الأوروبية والأميركية أمامها، إذ إنها تعوّل حالياً على بيع هذه السندات لمستثمرين من الصين، وربما من اليابان ودول أخرى في آسيا. وفي حال الفشل في ذلك أيضاً، لن يكون أمام هذه الحكومة إلا الاقتراض الداخلي لتغطية ولو جزء من عجز الميزانية العامة، وهو ما سيترتّب عليه زيادة الدين الداخلي في روسيا.

لقد تواكبت الخُطوات الأميركية والأوروبية المشار إليها أعلاه مع إقرار الرئيس الأوكراني، بيوتر بوروشينكو، في الخامس عشر من آذار الجاري، لما يُسمّى «عقيدة الأمن والدفاع في أوكرانيا»، والتي تتحدث عن «التهديد العدواني الروسي لوحدة الأراضي الأوكرانية بهدف القضاء على دولة أوكرانيا والاستيلاء على أراضيها». هذا الأمر استفزّ البرلمانيين الــــروس واســتدعى ظـــهور دعوات داخل مجلس الدوما الروسي بضرورة الردّ على بوروشينكو وعقيدته الأمنية العسكرية بصرامة.

برغم وجود تفاهمات معينة بين روسيا والولايات المتحدة حول تسوية الأزمة السورية، وبرغم أن مراقبين وخبراء روس وضعوا ضمن التفسيرات المتعددة لقرار الرئيس الروسي بالإقدام على سحب جزئي للقوات الروسية من سوريا محاولات بوتين فك الحصار المالي والاقتصادي المضروب على بلادهم من قبل الغرب بسبب القرم والأزمة الأوكرانية، إلا أن واشنطن، كما يبدو، تفضل تسوية المشاكل العالقة بينها وبين موسكو بمعزل عن بعضها البعض. فالأميركيون يُصرّون على إعادة القرم إلى أوكرانيا كشرط لإلغاء العقوبات، وهم يعلمون جيداً أن هذا لا يمكن أن يحدث في ظل حكم الرئيس فلاديمير بوتين.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى