موسكو وواشنطن على صفيح ساخن

أطلق وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر مؤخراً جملة من التصريحات في سياق حديثه عن الخطط الأميركية الجديدة الرامية إلى ردع روسيا، على اعتبار أنّها التهديد الرئيسي لأمن الولايات المتحدة والأمن العالمي. ووفق هذه الخطط، تنوي الولايات المتحدة تعزيز قدراتها العسكرية لحماية نفسها وحلفائها من التهديد الروسي المحتمَل. فقد حمل وزير الدفاع الأميركي المسؤولية الرئيسية لروسيا عن أزمة النظام العالمي في ضوء ما أسماه بانتهاكها لسيادة أوكرانيا وجورجيا والضغط على دول البلطيق. واعتبر كارتر أن روسيا تعمل على إطالة الحرب الأهلية في سوريا من خلال انخراطها العسكري في الأزمة السورية. وهذه التصريحات، بالطبع، ليست مفاجئة في ظل توتر العلاقات بين موسكو وواشنطن على خلفية الأزمتين الأوكرانية والسورية، وفي ظل أزمات أخرى مُعلقة في مقدّمتها الدرع الصاروخية الأميركية ـ الأطلسية. ومن المعروف أن الرئيس الأميركي باراك أوباما نفسه اعتبر أن تنظيم «داعش» وروسيا يمثلان تهديداً حقيقياً على الولايات المتحدة ومصالحها ومصالح حلفائها.

وترى صحيفة «كوميرسانت» الروسية أن وزير الدفاع الأميركي، مثله في ذلك مثل الرئيس أوباما، يعود بالخطاب الأميركي إلى عهد رونالد ريغان، الذي أطلق على الاتحاد السوفياتي وصف «امبراطورية الشر». فقد عبّر أشتون كارتر في تصريحاته المتعدّدة المتعلقة بروسيا عن قلق واشنطن من تلويحات الرئيس الروسي باحتمال استخدام السلاح النووي لحماية بلاده. وفي ظل «المساواة» الأميركية بين «داعش» وروسيا من حيث الخطر، يقول الوزير الأميركي إن «بلاده لا تسعى إلى حرب باردة أو ساخنة مع موسكو ولا تحاول أن تجعل من روسيا عدواً». ولكنه، في الوقت نفسه، يؤكد أن «البنتاغون» لديه حزمة من الإجراءات القادرة على ردع روسيا. وهذه الإجراءات، بحسب الوزير الأميركي، تبدأ من تحديث القدرات النووية وصنع أسلحة جديدة كقاذفات القنابل الاستراتيجية وأسلحة الليزر وزيادة المساعدات العسكرية لحلفاء واشنطن، ومنهم أوكرانيا. وقد وعد وزير الدفاع الأميركي بإعادة تشكيل القدرات العسكرية في أوروبا وإدخال تعديلات على القوات الأميركية في القارة الأوروبية لمواجهة السلوك الروسي.

ويرى خبراء روس أنه برغم أن كارتر نفى رغبة بلاده في إشعال حرب باردة أو ساخنة مع موسكو، إلا أن تصريحاته الأخيرة تُعَدّ الأعنف لمسؤول أميركي رفيع المستوى في حق روسيا منذ تفكك وانهيار الاتحاد السوفياتي، خاصة أنها صادرة عن وزير دفاع أميركي. ويعتبر الروس أن مثل هذه التصريحات تدل على أن احتمال تحسُن العلاقات بين البلدين أمرٌ مُستبعَدٌ في المستقبل المنظور. وتشير صحيفة «كوميرسانت» إلى أن المسؤولين الرسميين الروس يعتبرون أن تصريحات كارتر متكررة، حيث تصدُر مثل هذه التصريحات العدائية عادة كلما تقاربت المواقف الديبلوماسية للبلدين بشأن هذه المسألة أو تلك، خاصة بشأن سوريا. وتنقل الصحيفة عن مصدر روسي، لم تُفصح عن هويته، قوله: «عادة بعد كل تعاون إيجابي، يُطلق البنتاغون أو الخارجية الأميركية تصريحات شديدة اللهجة بهدف موازنة السياسة الأميركية حيال روسيا، تجنباً لأي اتهامات محتملة بتعاونها مع موسكو». ولكن الرئيس الروسي صرّح في العاشر من الشهر الجاري، أي فور تصريحات وزير الدفاع الأميركي، بأن بلاده ستتخذ الإجراءات كافة لتعزيز قواتها النووية الاستراتيجية بسبب نشر واشنطن منظومة الدفاع الصاروخي. وفي اليوم التالي، أكد بوتين أن روسيا لا تنوي الانجرار إلى سباق تسلح، ولكن يتعيّن عليها تعويض ما فاتها في مجال التصنيع العسكري، مشدداً على ضرورة تنفيذ الخُطط الخاصة بتحديث الجيش الروسي وتزويده بالأسلحة الأكثر تطوراً.

في العام الماضي، ذكرت وسائل إعلام أميركية أن البيت الأبيض يُخطط لعزل روسيا اقتصادياً وسياسياً، بجانب الضغط عليها عسكرياً خلال الفترة المقبلة. وهذه الخُطة تمثل «سيناريو مُحدّثاً» لاستراتيجية الحرب الباردة، وتحديداً لسياسة «الردع» الأميركية. ويتردد أن الرئيس بارك أوباما قد توصل مؤخراً إلى استنتاج مُفاده أنه لن تكون لديه علاقات «بناءة» حتى انتهاء ولايته الرئاسية مع الرئيس بوتين. ويبدو أن واشنطن ستمارس المزيد من الضغط على موسكو وخلق حالة تشبه أجواء الحرب الباردة وسباق التسلح حول روسيا. وفي هذا السياق قد يلعب تسريع نشر الدرع الصاروخية الأميركية الأطلسية في أوروبا الشرقية، المرفوض روسياً حتى الآن، دوراً مهماً في سياسة الردع الأميركية المُحدثة. ولكن هذه الخطط الأميركية ستتوقف على مدى الردّ الروسي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وعلى الولايات المتحدة نفسها التي تبدو وكأنها تتراجع عن «الزعامة» العالمية.

إذا تتبعنا السياسة الأميركية تجاه روسيا، سنجد تشابُهاً كبيراً مع ما كان يُسمّى بــ «سياسة الردع» التي اتبعتها واشنطن تجاه الاتحاد السوفياتي السابق. فقد عُرضت أهداف «سياسة الردع» الأميركية تجاه موسكو «الشيوعية» لأول مرة في العام 1947، أي في بداية «الحرب الباردة» عملياً. وقامت هذه السياسة على أساس النظر للاتحاد السوفياتي كخصم على الساحة الدولية، وعلى ضرورة التعامل معه عبر خطط طويلة الأجل لردع ميوله التوسعية. كما أنها انعكست في إنشاء «حلف شمال الأطلسي» في العام 1949، وتضمّنت أيضاً استخدام الحصار الاقتصادي وتشكيل شبكة من القواعد العسكرية حول الأراضي السوفياتية. وهذا يُشبه إلى حد كبير ما تقوم به واشنطن اليوم مع موسكو «الرأسمالية»، حيث تتوالى العقوبات الاقتصادية في موجات وجرعات معينة ويتّسع الوجود العسكري الأميركي والأطلسي حول الأراضي الروسية، وتتوالى التصريحات المُحذّرة من التهديد الروسي. وعلى الجانب الآخر، تتوالى كذلك التصريحات والخطوات الرامية إلى تعزيز القدرات العسكرية الروسية لمواجهة «الردع الأميركي» بسياسة «ردع روسية»، مُكلفة في جميع الأحوال. ويمكن القول إنه بالرغم من بعض التفاهمات الروسية الأميركية في بعض القضايا، إلا أن العلاقات بين موسكو وواشنطن تبدو على صفيح ساخن في إطار الصراع والتنافس على الساحة الدولية.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى