“موسم الحجيج” الأميركي للمنطقة: أيّ ملفات ومقاربات.. ولماذا الآن؟
لا يبدو أن ثمة نهاية وشيكة لـ”موسم الحجيج” الأميركي للمنطقة… الموسم بدأ، كما هو معروف، بزيارة جيك سوليفان (19 كانون الثاني/يناير)، ووليام بيرنز من بعده بعشرة أيام، ثم أنطوني بلينكن في نهاية الشهر ذاته، ثم رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، الجنرال مارك ميلي، في الرابع من الجاري (زار شمالي سوريا الشرقي)، والآن، وزير الدفاع لويد أوستن، جائلاً بين عمّان و”تل أبيب” والقاهرة. وبين هذه المحطات المتعددة، وفي أعقابها، ثمة نصف دزينة على الأقل من المسؤولين الأمنيين والعسكريين والسياسيين الأميركيين الأقل شأناً، والذين تم استبقاؤهم في المنطقة، لمتابعة تنفيذ ما انتهت إليه تلك الزيارات والجولات.
ما الذي يدور في خلد هؤلاء، وما الذي جاء بهم، ولماذا الآن، وماذا يحملون في جعبهم من أفكار ورسائل ومشاريع، وما الذي يبرّر كل هذا الزحام في طرق المنطقة وفي مطاراتها؟
بقليل من المجازفة، ووفقاً لمصادر متعددة ومتطابقة، يمكن القول إن هؤلاء الموفدين الكبار جاءوا بملفات ثلاثة، هي: إيران، “غضب الضفة الغربية الذي لا يهدأ”، وشد عصب الحلفاء والأصدقاء حيال الصراع الدائر مع روسيا في أوكرانيا، وضد الصين عند شواطئ تايوان ومضائقها.
إيران ملف استراتيجي أول، بيد أن صفة الاستعجال فيه، تقاس بالأشهر، وربما بالأعوام، بينما ثورة الشعب الفلسطيني ضد الصلف العنصري المتمادي لحكومة اليمين الفاشي، تكتسب درجة أعلى من الاستعجال، وإن كانت تحظى بدرجة أقل من الخطورة والأهمية من منظور أميركي، ولا سيما أننا على بعد أسابيع قليلة، مع موعد منتظر مع “الانفجار الكبير”، بحلول شهر رمضان المبارك، تزامناً مع أعياد دينية يهودية. أمّا الصراع الكوني، والذي يتخطى حدود أوكرانيا وتايوان، إلى جوهر “النظام العالمي الجديد” وماهيته، فالحاجة ماسّة دائماً إلى تحفيز الحلفاء والأصدقاء، ودفعهم إلى الخروج عن “حيادهم المريب”، والاصطفاف مجدداً خلف واشنطن، في حربها غير المقدسة، على الأقطاب الدولية الناشئة والمُزاحمة على زعامة العالم وقيادته.
إيرانياً، كثف الإعلام الغربي (والإسرائيلي بصورة خاصة) مؤخَّراً، تقاريره و”تسريباته” بشأن قرب طهران من إنتاج “القنبلة النووية”، وقيل في بعضها إن إيران باتت على مسافة 12 يوماً منها، ومخزونها من اليورانيوم المخصَّب يزيد أكثر من 10 أضعاف عن المسموح به بموجب اتفاق فيينا “المغدور”. علاقات إيران بروسيا باتت مبعث قلق غربي – أميركي – إسرائيلي، ولا سيما في ضوء الأنباء /التسريبات بشأن صفقات تسلُّح بالغة الأهمية، تتزود بموجبها إيران بتكنولوجيا متقدمة وأسلحة حديثة، وطائرات مقاتلة وصواريخ أرض جو، نظير تزويد إيران لروسيا بطائرات مسّيرة وغيرها. هذا عامل جديد، واستراتيجي، يساهم في تعميق الفجوة بين إيران والغرب، ويرفع منسوب القلق لدى واشنطن و”تل أبيب”، دع عنك ملف “البرنامج الصاروخي”، الذي يجعل الوجود الأميركي والوجود الإسرائيلي، ضمن دائرة قطرها ألفا كيلومتر، في مرمى الصواريخ الباليستية الإيرانية.
في هذا الملف، تتشاطر الولايات المتحدة و”إسرائيل” القلق ذاته، وهما تَعُدّان العدة لمواجهة أسوأ السيناريوهات. لكن اتفاق البلدين استراتيجياً بشأن خطورة “التهديد الإيراني”، لا يعني أنهما على الموجة ذاتها، تكتيكياً على الأقل. ووفقاً لمصادر “أطلسية” في عمّان، فإن واشنطن ما زالت على تفضيلها خيار الدبلوماسية/العقوبات في التعامل مع إيران، بينما تجنح “إسرائيل” لخيار القوة العسكرية، مصحوباً بتكتيك “أقصى العقوبات”، في طبعته “الترامبية” الأكثر تشدداً.
أكثر ما يُقلق واشنطن أن يلجأ نتنياهو، على رأس حكومته السادسة الأكثر تطرفاً وفاشيةّ، إلى تصدير أزمته الداخلية، مع حلفائه وخصومه، على حدّ سواء، عبر فتح جبهة ضد إيران، لا ترى واشنطن أن أوان فتحها آن. ولعل هذا ما يفسّر، إلى حد كبير، “حجيج” كبار قادة الجيوش والاستخبارات والأمن القومي الأميركيين إلى “تل أبيب”. فواشنطن لا تريد مفاجآت. وعلى رغم إدراكها أن “تل أبيب” أعجز من أن تقوم، منفردةً، بضرب البرنامج النووي الإيراني، فإنها تخشى “عطش” نتنياهو إلى السلطة، وما قد يستجره من مغامرات غير محسوبة من أجل البقاء على رأسها.
فلسطينياً، لا شيء لدى واشنطن تقدّمه سوى “التهدئة” وتفادي “سيناريو الانفجار الكبير”، والذي قد تحرق حممه السلطة الفلسطينية، وتتطاير شراراته إلى الدواخل العربية، وتحديداً الأردن ومصر، البلدين الحليفين المجاورين، واللذين تعتصرهما ضائقتان اقتصادية ومالية، عزّ نظيرهما، وانسداد سياسي داخلي، لا يبعث على الطمأنينة. “تهدئة” مصحوبة ببعض التسهيلات الاقتصادية، ومشروطة بقيام السلطة بدور أمني بديل من الدور الإسرائيلي المباشر. هنا بالذات، تندرج مهمة الجنرال مايكل فينزل، وريث الجنرال كيت دايتون، وحامل لواء “الفلسطيني الجديد”، الذي يرى في المقاومة عدواً، وفي “الشاباك” حليفاً.
التهدئة، المطلوبة أميركياً، غير مشروطة بوقف الاستيطان، مع أنها تلحظ إبطاء وتائره، وغير مشروطة بوقف اجتياحات مراكز المدن والمخيمات وقصباتها، إلّا في حال نجاح السلطة في القيام بذلك بدلاً من “جيش الدفاع”، ولا يفرق كثيراً بين وصاية هاشمية على الأقصى أو احترام الدور الأردني الخاص، فكِلا التعبيرين ورد في بيان العقبة، ولكل طرف أن ينتقي أيّهما أكثر ملاءمة لخطابه وجمهوره المستهدف. ومَن يقرأْ بيان العقبة، يَرَهُ خالياً من “الأفق السياسي”. فعلى رغم تبني أربعة، من خمسة أطراف شاركت فيه، “رؤية حل الدولتين”، فإنها عجزت عن تضمينها في البيان المذكور بسبب فيتو الطرف الخامس: “إسرائيل”. لهذا، صحّ القول إن اللقاء كان أمنياً بامتياز.
لقاء العقبة هو الثمرة الطبيعية لـ”موسم الحجيج” الأميركي، إذ جاء منسجماً مع المقاربة الأميركية الراهنة لملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والتي تسعى لتحقيق هدفين اثنين: التهدئة في هذا المسار الثنائي، وتحفيز المسار الإبراهيمي على إلحاق السلطة والأردن بركبه ابتداءً، لكأن لقاء العقبة الذي أريد به تحقيق الهدف الأول، إنما جاء توطئة لتحقيق الهدف الثاني: “النقب 2”.
صحيح أن نتائج لقاء العقبة تبخّرت على وقع الحريق الذي شب في “حوارة”، ولا سيما بعد أن تسابق وزراء حكومة نتنياهو، ونتنياهو شخصياً، إلى التنصّل من أي التزامات رتّبها اللقاء على “دولة” الاحتلال والعنصرية، لكنّ الصحيح أيضاً، وفقاً لمصادر موثوقة، أن عملاً حثيثاً يجري الآن بصمت، بعيداً عن الإعلام، من أجل وصل ما انقطع، وأن “شرم الشيخ”، هذا الشهر، ستواصل ما بدأ في العقبة الشهر الفائت، وأن هذه المهمة ما زالت تتصدّر جدول أولويات الموفدين الأميركيين الكبار، وأن حشداً من المسؤولين الأمنيين والعسكريين والسياسيين يعمل على إنجازها. وأحسب أنَّ من سوء التقدير الاعتقادَ بأن خطة الجنرال فينزل احترقت في حوارة، أو الظن أن “القَوم” فقدوا شغفهم في إطفاء جذوة المقاومة المشتعلة في فلسطين المحتلة، ودائماً تحت شعار “التهدئة” وبحجة “خفض التصعيد”.
أمّا المهمة الثالثة، والثابتة، في جداول أعمال الموفدين الأميركيين للمنطقة، فتجلّت في السعي لتقطيع الروابط والصلات بين دول المنطقة من جهة، وكل من روسيا والصين من جهة ثانية. ويشمل ذلك حثّ “إسرائيل”، على مد يد العون العسكري إلى أوكرانيا، أقله من أجل موازنة دعم إيران لروسيا، ورغبة الأخيرة في تسليح الأولى، على نحو يتجاوز “الخطوط الحمراء التقليدية”، التي حكمت العلاقة بين موسكو وطهران، وتشجيعها (“إسرائيل”)، أو حتى الضغط عليها، من أجل وقف اندفاعتها نحو بكين، إن كان في المجال التكنولوجي والجيل الخامس من الاتصالات، أو على صعيد البنية التحتية. الأمر ذاته ينطبق على سائر الحلفاء العرب، ولا سيما السعودية، في إطار “أوبك بلاس”، والإمارات في مجالات الإتجار مع روسيا، واحتضان رساميلها الهاربة من العقوبات الأميركية، من دون أن يَغفَلَ هؤلاء الموفدون، وخصوصاً الجنرال ميلي، عن توجيه الرسائل الميدانية إلى موسكو وطهران ودمشق، من شمالي شرقي سوريا، وهي رسائل تنفع كذلك لغرض الحد من اندفاعة العرب في اتجاه دمشق، قبل كارثة الزلزال، وخصوصاً بعدها.
تبقى الإشارة هنا إلى أن واشنطن، وإن كانت في “مزاج” انسحابي من الشرق الأوسط استراتيجياً، وعلى المدى الأبعد، إلّا أن أزمات الإقليم الراهنة والضاغطة، وتشابكاتها مع الديناميات الجديدة في العلاقات الدولية، ما زالت تُمْلي عليها البقاء هنا، وتوظيف أدواتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والأمنية، من أجل المحافظة على ما تبقّى لها من مصالح، وفي أدنى تقدير، لمنع اللاعبين الدوليين المنافسين، من ملء فراغها، وتعظيم مصالحهم على حسابها.
الميادين نت