موسيقا الجيوكندا !..
كيف يحكم الواحد منا على الموسيقا التصويرية في الأفلام السينمائية أو الوثائقية أو المسلسلات التلفزيونية على أنها جيدة أم سيئة ؟..
كنت أفتش دوما عن جواب قصير حاسم و مقنع بدلا من الإجابات المطولة بعد نقاش مديد . وصلت أخيرا إلى هذا الجواب في إحدى الليالي بعد مشاهدتي فيلما عالميا رائعا حين انتبهت إلى أنني نسيت موسيقا ذلك الفيلم مما إضطرني إلى إعادة عرضه و حينئذ انتهبت إلى هذه الملاحظة و هي أن موسيقاه التصويرية كانت متطابقة مع المشهد سواء أكان منظرا للطبيعة الهادئة أو العاصفة إذ تلين الموسيقا مع هدوء الطبيعة و كأنها جزء لا يتجزأ من المنظر ثم يرتفع الصوت الموسيقي جدا مع العاصفة و كأنه الريح التي تهب او النار التي تلتهب مما كان يجعلني لا أتذكر من المشهد إلا صورته المعروضة. هذا هو إذن الجواب على سؤالي : تكون الموسيقا التصويرية للفيلم جيدة بقدر ما تذوب في الصورة المتحركة أو الساكنة و كأنها لم تكن موجودة !
هنا تذكرت ماذا يحدث في الأفلام السيئة إذ تطغى موسيقاه التصويرية باستمرار على المشهد و كأنها تشاغب عليه كما أذكر في مشهد مريض يحتضر كيف كانت الموسيقا الصاخبة المشهد المريض كأنها ضجة مظاهرة جماهيرية و هكذا انفصلت الموسيقا في هذا الفيلم عن المريض الذي يموت لا لشيء إلا لأن المشرف على الموسيقا المنظر إنسان ضعيف الثقافة الفنية ولا هم له إلا أن تصرخ موسيقاه كي يتباهى عبر أجوره الشخصي بدلا من أن ينسجم مع مشهد المريض المحتضر فيسكت أو يخفت صوت الآلات الموسيقية بدلا من أن يشد نفخته فيها أو ضربه على الطبل !.
تذكرني هذه الملاحظة بالفنون الجميلة جمعاء كما بالمشاهد الوثائقية ، فالرسام مثلا ينجح في إبداعه أكثر فأكثر كلما أحكم في استخدامه الألوان بين الضوء الشديد أو الظلام الحالك فيراوح بين البياض و السواد و الرمادي و الأحمر أحيانا بشكل ساحر و كأن طريقته في إستخدام الألوان كانت كالموسيقا التصويرية الذكية في المشهد السينمائي . و مثل ذلك في الشعر إذن ينجح الشاعر الموهوب في إختيار الوزن الإيقاعي المناسب للصور المجازية و ما تحمله من أفكار فيغدو ” البحر الكامل ” أفضل من “البحرالمتقارب” في وصف معركة على الخيول و بالسلاح الأبيض هل تذكرون مثلا إبتسامة المرأة الجميلة في لوحة ” الجيوكندا” للرسام العظيم “دافنشي” … ماذا رأى ذلك الرسام العبقري في وجه تلك السيدة التي ظل زمنا طويلا يحاول فهم طبيعة هذه المرأة أو عالمها الداخلي النفسي حين كانت تجلس أمامه بكل بهائها و جمالها و نظرتها الحائرة بين الحزن العميق و الإعتزاز بالفنان الكبير …
فماذا صنع دافنشي كي يصور ما فكر فيه و ليس ما شاهده فقط في وجه تلك السيدة الجميلة … إنه ليس الجمال وحده … و ليست الأناقة … و ليست العظمة و الأبهة …و إنما هي هذه الحيرة بين الألم و الفرح أو ما بين ما نريد أن نخفيه و بين ما نريد أن نظهره فلذلك ركز الفنان الذكي على الإبتسامة المغتصبة لأمرة تكتم أحزانها و جعل باقي المشهد مناظر عادية لملابس لا فخامة فيها و منظر طبيعي وراءها لا يلفت النظر كثيرا و هكذا برز الوجه الجميل الوديع مضاء وسط المشاهد الرمادية المحيطة به و اختار وضع الشفتين ألا تكونا شفتين كثيفتين لإمرأة شهوانية بل أن تكون رقيقتين مناسبتين تماما لا للجمال الانثوي وحده بل لعظمته في قدرته على كبت أحزانه من خلال العينين و الشفتين … و كأن كل هذه الإضافات كانت أشبه بالموسيقا التصويرية لمشهد تلك السيدة النبيلة الحزينة في فيلم إنساني مقتضب في لوحة واحدة …
و هكذا حين نحاول أن نتذكر تلك اللوحة و هي بعيدة عنا لا نتذكر سوى إبتسامتها أما الموسيقا في المناظر المحيطة بها فلا نعبأ بتذكرها إطلاقا…