مو يان: علينا قبول أن يعبّر كل جيل عن انفراده ويغير اللغة الأدبية (اسكندر حبش)
اسكندر حبش
في السابعة عشرة عرف أنه سيصبح كاتباً، قال يحتقرني الآخرون سأريهم من أنا
أثار فوز الكاتب الصيني مو يان، بجائزة نوبل للآداب، الكثير من الجدالات في دنيا الأدب، التي اعتبرته كاتب نظام، بينما ركز آخرون على أدبه، الذي وجدوه يستحق هذا التكريم. في أي حال، يبدو مو يان بعيدا عن أي تعاط سياسي، كاتبا كبيرا، استطاع أن يقدم للأدب الصيني المعاصر الكثير من التجديد، إن من ناحية الموضوعات وإن من ناحية الأسلوب. وللتعرف أكثر على هذا الصيني، نترجم هنا مقتطفات من حوارين أجريا معه في صحيفة «لونوفيل اوبسرفاتور» الفرنسية، الأول العام 2005 والثاني العام 2009، حيث اقتطفنا بعض الأسئلة والأجوبة، لنطل عبرها أكثر على طريقة تفكير هذا الرجل كما على كتابته.
إحدى المجلات الأسبوعية عنونت مؤخرا صفحة غلافها بالقول: «ليست هناك كتب تقرأ في الصين».
الأدب الصيني يشهد انحدارا. ما رأيك بذلك؟
ـ لست موافقا البتة على هذا القول! بل أعتقد اننا على العكس من ذلك دخلنا في عصر على درجة كبيرة من الخصوبة. اليوم يتحقق حلم المتعلمين القديم: «المئة زهرة». لقد تحررنا من الارهاقات، ومن الأمثلة المفروضة علينا من «الأعلى». تتشظى الحياة الأدبية في تنوع مدهش. هناك أيضا التعايش بين مختلف أجيال الكتّاب، بدءاً من الذين في العقد السابع حتى المراهقين، ثمة أعمال متنوعة في المضمون كما في الشكل. كما أن كل جيل يجد قراءه. ماذا تريدون أكثر من ذلك؟
لكنها، مع ذلك، الروايات السهلة والفضائحية، وبخاصة روايات «الكاتبات الجميلات» اللواتي يعرفن النجاح الكبير. هل نسمي ذلك أدبا؟
ـ بالتأكيد. إنها أنواع جديدة، تملك اصطلاحاتها وقيمتها. ما الذي يمكن أن نقوله عن حديقة لا ينبت فيها إلا نوع واحد من الورود؟ بالنسبة إليّ الحديقة هي المليئة بأنواع عدة، بما فيها الأنواع المسمومة. لقد تمنيت دائما وجود أنواع أدبية متنوعة، وشعرت بسرور كبير حين رأيت ذلك يتحقق. أستلم، في أغلب الأحيان، مخطوطات مكتوبة من قبل طلاب المدارس. ساعدت مؤخرا صبيا من «هنان»، كان أرسل لي رواية طويلة، محشوة جيدا، تجري أحداثها في عصر سلالة مينغ! أشعر بالبهجة بأن هذه الروايات المسماة «مراهقة» تعرف نجاحا كبيرا عند المراهقين. القراء أيضا متنوعون مثل الكتّاب.
في العمل، ما هو الأدب؟ ماذا أقول؟ ما الذي تقوله أنت؟ بالنسبة إلى المراهقين فإنهم يحتقرون الأشياء التي تعنينا، ولديهم الحق في ذلك؟ تماما مثلما لدينا الحق في أن لا نحب ما يعجبهم. حاليا، وفي الوقت الذي تفكر فيه الصين بدولة القانون، علينا أن نملك الوعي عينه في عالم الأدب: ما دام كاتب ما يبقى في الإطار القانوني، فله الحق في أن يكتب ما يريد بالطريقة التي يريدها. لنتركهم بسلام.
يأخذون عليهم أن لديهم نقصا ما في العمق، ثمة جانب مجاني؟
ـ عوالمهم مختلفة عن عالمنا. عند جيلي مثلا الذي يضم في من يضم سو تونغ، يو هيوا، وانغ أنيي… الخ، نجد أن لديهم علاقة حميمة مع الناس البسطاء، مع الفلاحين. جيل يتحدث عن مآسي الثورة الثقافية، عن الاضطهاد، الجوع، الوحدة التي وسمت الستينيات. الشبان اليوم يجدون مراجعهم في الفانتازيا التي يجدونها عند آخرين. إنها الخيال المزدوج بمعنى ما، مادتهم الأولى تأتي من الابداعات الموجودة: عوالم الشرائط المصورة، المانغا، الرسوم المتحركة.
بالتأكيد، ما من شيء واقعي في ذلك كله. لا نجد أي نظرة الى المجتمع، مثلما لا نجد أشياء مهمة، بنظرنا، عن القدر والعذاب. إنه عالم خيالي، لكنه عالمهم الخاص. حين كنت شابا، كنت أجد أن الفضاء الذهني لمن سبقونا ـ جيل وانغ مينغ ـ بما يمثلونه من نضال الحزب والمؤمرات وما شابه كان عالما هزليا ومضحكا. علينا القبول بأن كل جيل يعبر عن فرادته ويبدل اللغة الأدبية تماما مثلما يفعل اليوم هؤلاء الشبان عبر استعاراتهم الغريبة المنحدرة من لغة المعلوماتية.
أدب مديني
لقد أصبح الأدب مدينيا بطريقة كبيرة لدرجة أن الفلاحين، الذين يشكلون ثلثي الصينيين، اختفوا من المشهد الأدبي. ألا يبدو الأمر مؤسفا؟
ـ هذا صحيح، لم يعد هناك من كتّاب شبان يهتمون بالفلاحين. الشبان الذين ينجحون في مغادرة الأرض يشعرون بالرغبة في الكتابة عن حياتهم الجديدة، لا عن القديمة. لكني متأكد من أن ذلك سيظهر قريبا، سيستوحون من عوالم القرية. إنه عالم غني جدا. وفي انتظار ذلك، ما زال جيلي هنا، حاضرا، إذ يعرف هذا العالم عن قرب. أهلي واخوتي لا يزالون يعيشون في قريتي في غوامي….
ثمة اليوم ما يثير هذه المخاوف، لأن الفروقات تتعمق بين الفقراء والأغنياء. بالتأكيد، حدث خلال السنوات الـ 25 الماضية تحسين استعراضي لمستوى الحياة العام. لكن توجد ثروات عملاقة ليست من أصول شرعية. وهذا ما يسبب الغضب، وعدم الشرف. فساد السلطة يفرد جناحيه على المجتمع بأسره. قبل عدة عقود، انفجرت الثورة لأن الصين كانت تعاني الأمراض عينها. إنها سخرية القدر القاسية.
يعني هذا كله، أنني في هذه اللحظة، لم تعد لدي أي رغبة في الكتابة عن الأزمات في المدن، عن اختلاف القيم، عن تصرفات العشاق المختلفة، أكانوا في الخمسين أم في العشرين. غالبا ما يتناول الشبان موضوع الحب كأنه تسلية، لكني أعتقد أن حتى مو زيمي لا يمكنه أن يمضي حياته وهو يبدل شريكته كل يوم.
حين حاز غاو سينيانغ جائزة نوبل للآداب كنت أحد الكتّاب الصينيين القلائل الذين وجهوا له تحية. لمَ لم يُثر الحماسة؟
ـ آه! هذا أمر إنساني بامتياز. لا نبي في وطنه، أليس كذلك؟ إننا نعرف جارنا بطريقة حميمية ما يمنعنا من أن نجده عظيما. يقال إن غاو قد استعار مسرحه الطليعي ـ الذي جعله شهيرا في الثمانينيات ـ من الكتّاب الغربيين، الغرباء، وقد استطاع ذلك لأنه كان يجيد الفرنسية في وقت لم تكن أعمال هؤلاء قد ترجمت بعد إلى الصينية. هذا صحيح قليلا، لكن ذلك لا يمنع من أنه أدخل الطليعية إلى الصين.
لقد كتب أيضا كتابا صغيرا حول المسالك الأدبية المعاصرة وقد غذانا ذلك كلنا في عملنا الأدبي. بالنسبة إلي، كان غاو أشبه ببروميثيوس الذي سرق النار التي حملها لنا. في أي حال، كل الذين يشعرون بأنهم أفضل منهم لحيازة نوبل للآداب ما عليهم سوى أن يكتبوا أعمالا عظيمة. سنتحدث عن الأمر بعد عشرين سنة.
كيف كان وضع عائلتك؟
كان والدي فلاحا متعلما. يقرأ ويجيد استعمال شبكة الصيد. أصله الاجتماعي: «فلاح غني». لكنه كان يضاعف عمله بقسوة بسبب هذه الأصول الاجتماعية السيئة. كان جدي يملك أرضا شاسعة إلى حد ما، وبسبب ذلك كنّا نعامل على أننا فلاحون أغنياء. ولحسن الحظ لم نُسمّ «ملاكي أراض»، كنّا في المرتبة الثانية بعدهم، وبالضبط قبل «فلاحين متوسطين». بعد ذلك نجد العمال الزراعيين. في المدرسة كان المعلم يقول: «ليبق أطفال الفلاحين المتوسطين والفقراء، ليرحل الآخرون..».
كان ذلك يسبب لي الثورة، فالأغنياء كانوا أجدادي، لا أنا، لا نحن، الذين لم نكن نتمتع حقا بوضعية متميزة. كان مستقبلي مغلقا عليه، لم يكن باستطاعتي متابعة الدراسة بشكل طبيعي. ولم أستطع الثورة ضد أبي، بل توجه غضبي ضد النظام. دخلت الجيش، كانت الطريقة الوحيدة لمغادرة القرية. ونظرا لأصولي، شكل الأمر ترقية، شرفا.
هل تفضل كتابة قصة قصيرة أم رواية طويلة؟
ـ اليوم أفضل تحدي الروايات الكبيرة. إنها مثل الحياة، مثل زمن حياة. في البداية، نتردد، وما إن نصل إلى طرفها، نشعر بأننا وصلنا إلى شيخوختنا. نكمل دائرة مكتملة، ومن ثم أخرى، وفي النهاية لا نشعر بالشيخوخة أبدا. في الجيش، لم يكن أمامي سوى المساء كي أكتب فيه، لذلك كانت رواياتي قصيرة. حاليا، أعيش وضعية الكاتب، لذلك يمكنني أن أكتب بطريقة مجتهدة.
أكتب بسرعة
كيف تكتب؟
ـ أكتب بسرعة. تختمر الفكرة طويلا، ومن ثم، ما ان أمسك بالقلم حتى ينفرط الأمر. أعمل عشر ساعات باليوم. أغلق على نفسي، لا افعل سوى ذلك. أحيا في حالة من الإثارة التي تمنعني من النوم. حين أنام، ثمة جزء من دماغي يرتاح. وإن صادفت مشاكل، أجدها تثور في أحلامي…
هل تعرف، حين كنت طفلا، ما معنى أن يكون الشخص كاتبا؟
ـ بالنسبة إليّ، كان شخصا يكسب المال ويأكل الرافيولي كل يوم. بعد ذلك اكتشفت أنه ليس كذلك أبدا..
كيف تمّ استقبال نجاحك؟
ـ لقد شهد والداي نجاحاتي. كانا، أعتقد، سعيدين جدا، لكنهما لم يعبرا عن ذلك. أعرف أنهما كانا يقولان من وراء ظهري: «لم نفكر يوما بأنه سينجح بهذه الطريقة». عرفت طفولة صعبة. كانا يحتقرانني. لم يشجعني أحد. طردت من المدرسة الابتدائية. كانوا يعتبرونني لا أساوي شيئا. فقط، أمي ربما. إن كاتبا لا يعرف طفولة صعبة لا يمكنه أن يصبح كاتبا كبيرا. قرأت رواياتي الأولى وأنا في السابعة والثامنة، وكنت أجدها مدهشة، من المدهش أن نكتب أقاصيص مماثلة. أفهمني كتاب «طفولة» لغوركي أنه يمكن لنا تحويل حياتنا إلى الإبداع. كلما تعرض الكاتب لصعوبات كلما ساعده ذلك. وأنا في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، عرفت أني سأصبح كاتبا. قلت لنفسي، يحتقرني الآخرون، وسأريهم من أنا. لم يروا إلا المظاهر، لا ما كنت عليه في الواقع. كل ذلك لم يعد يعني أي شيء في ما بعد، لكن النبضة الأولى، أظهرت بالفعل ما كنت جديرا بالقيام به. الجميع كانوا يجدونني قبيحا. كان أخي البكر يقول: لمَ هو بهذا القبح. «لا أجده كذلك»، كانت تجيب أمي.
صحيفة السفير اللبنانية