كتب

ميغيل بونفوا يبني عمارته السردية على أساطير فنزويلا

يواصل الروائي الفرنسي ــ الفنزويلي ميغيل بونفوا (37 عاماً) تألّقه الأدبي في روايته «حلم الجاغوار» (2024)، التي حصلت «دار عرب للنشر» على حقوق ترجمتها إلى العربية.

 

تأتي هذه الرواية الخامسة في مسيرته الإبداعية، لتؤكد براعته في نسج الحكايات العائلية الممتدة عبر أجيال متعاقبة، إذ يستلهم هذه المرة قصة جدّيه من جهة والدته. وقد حصد بونفوا الجائزة الكبرى للرواية من الأكاديمية الفرنسية عن هذا العمل، الذي نال استحسان النقّاد في منافسة محتدمة حُسمت في الجولة الثالثة من التصويت، حيث حصل على ثمانية أصوات، متقدماً بفارق ضئيل على منافسَيه، اللذين حصل كل منهما على سبعة أصوات. وعبّر بونفوا عن سعادته بهذا التقدير، مشيراً إلى أنّ «بطنه ما زال مليئاً بالكتب التي لم تأتِ بعد»، في إشارة إلى مشاريعه الروائية المستقبلية.

تبدأ الرواية بجملة ساحرة تختزل مصير بطلها وتفتح الباب أمام حكاية استثنائية: «في اليوم الثالث من حياته، تُرك أنطونيو بورخاس روميرو على درج كنيسة في شارع يحمل اسمه اليوم». هذه الجملة الأولى، تضع القارئ مباشرة أمام مسار حياة غير عادية، فكيف لطفل لقيط أن يصبح شخصية مهمة لدرجة تسمية شارع باسمه؟ يستند بونفوا في بناء روايته إلى أسطورة محلية يتناقلها فلّاحو ماراكايبو، تقول إن في كل مجموعة من القطط يولد «جاغوار واحد»، تضطر الأم إلى طرده خوفاً على بقية أولادها، فينمو بشكل مختلف ويصير من بُناة المدينة. والجاغوار نوع من القطط الكبيرة التي تعيش في أميركا اللاتينية، يتميّز بقوته واستقلاليته، ما جعله رمزاً في عدد من الثقافات هناك. هكذا يصبح مصير أنطونيو تجسيداً بشرياً لهذه الأسطورة، فمن طفل لقيط تبنّته عجوز متسوّلة بكماء، إلى بائع سجائر صغير، ثم عامل في ملهى ليلي، يشق طريقه ليصبح طبيباً مرموقاً ومؤسساً لجامعة عريقة في فنزويلا.

تتميّز الرواية بتوظيف عناصر الواقعية السحرية التي تُعدّ سمةً بارزة في أدب أميركا اللاتينية، فنجد شخصيات غرائبية مثل بطريق يدعى بوليكاربيو جاء من القطب إلى المناطق الاستوائية ليثير دهشة السياح، وشبح يسكن منزلاً قديماً، وامرأة ذات شعر أحمر ساحر، وطفل عملاق يتحول إلى جلاد مخيف. تتحرك هذه الشخصيات في فضاء روائي يمزج بمهارة بين التاريخ الكبير لفنزويلا ــــ من اكتشاف النفط في ماراكايبو عام 1919 الذي جعل البلاد أكبر مصدر للذهب الأسود لنصف قرن، مروراً بالثورات المتعاقبة والديكتاتوريات المتتالية، وصولاً إلى صعود هوغو شافيز إلى السلطة في التسعينيات ــــ والتاريخ العائلي الحميم لبورخاس روميرو.

في قلب هذا العمل الروائي الثري، تبرز قصة حب استثنائية بين أنطونيو وآنا ماريا رودريغيز، التي تصبح أول امرأة طبيبة في ولاية زوليا، متحديةً تقاليد مجتمع ذكوري محافظ. تُكرِّس آنا ماريا حياتها كطبيبة لمساعدة النساء سراً في الإجهاض رغم القوانين القمعية، بينما يصبح زوجها جرّاحاً شهيراً. ثم تولد من زواجهما ابنة يُطلقان عليها اسم «فنزويلا» كرمز لأمل وطن بأسره في التغيير والحريَّة. تتمرد فنزويلا على التوقعات التقليدية، وتبحث عن طريقها الخاص بعيداً من الإرث الثقيل لعائلتها. رغم جذورها القوية في فنزويلا، إلا أنّ مصيرها يقودها إلى تجربة الحياة في باريس خارج وطنها، حيث تواجه التحدّيات والصراعات التي تعكس هويتها المتشابكة.

في المقابل، يُمثِّل كريستوبال، حفيد أنطونيو، جيلاً جديداً ينشأ بين ثقافتين مختلفتين، إذ وُلِد في باريس لأم فنزويلية وأب تشيلي هارب من ديكتاتورية بينوشيه، ما يجعله يعيش في صراع داخلي بين جذوره اللاتينية وحياته الأوروبية. لذا، يقرر كريستوبال القيام برحلة داخلية عميقة لاكتشاف هويته عبر تدوين تاريخ العائلة، ما يجعل الكتابة بالنسبة إليه مسألةً وجودية وحيوية.

يتميّز أسلوب بونفوا بلغة شاعرية غنية وجمل موسيقية مُتقنة، حيث ينسج بين الخيال والواقع في بنية باروكية فريدة، حتى إنّ بعضهم شبّهه بالكاتب الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز. تبرز براعته في المشاهد العاطفية النادرة، مثل التأمل العميق والإحساس بالمصير المشترك بين أنطونيو وآنا ماريا. كذلك تتجلى قدرة الكاتب على خلق أجواء ساحرة في «كينتا آنا ماريا»، المنزل الكبير الذي يسكنه الزوجان، حيث يصف الفناء الخلفي الإستوائي بأرضيته المُبلطة باللون الأزرق، والمُحاط بأشجار المطاط والمونستيرا، في حين تدخن آنا ماريا غليونها وتدندن أغنيات الحب في المساء.

رغم جمالية السرد وشعريته وثراء الشخصيات، تعاني «حلم الجاغوار» من بعض الثغرات التي قد تثير تحفّظات لدى بعض القرّاء. تعتمد الرواية بشدّة على الأسلوب الوصفي، ما يجعلها أحياناً غارقة في زخارف لغوية مبالغ فيها، ما قد يُبطئ الإيقاع في بعض الأجزاء. كذلك، لم تحظَ بعض الشخصيات الثانوية، رغم أهميتها، بالتطوير الفنيّ الكافي، ما يجعلها تبدو مجرد أدوات لتحريك الحبكة من دون تعمُّق في دوافعها. أما النهاية، فجاءت مفتوحة إلى حد قد لا يرضي جميع القرّاء، إذ يترك بونفوا عدداً من الأسئلة من دون إجابات واضحة، ما قد يخلق شعوراً بعدم الإشباع السردي.

مع ذلك، تتجاوز «حلم الجاغوار» هذه المآخذ، إذ إنها ليست مجرد رواية عائلية، بل هي أيضاً تأمل عميق في مفاهيم الهويّة، والانتماء، والمصير. وكما يُطرد حيوان «الجاغوار» من مجموعته ليشق طريقه الخاص، تُجسِّد شخصيات الرواية نماذج للإنسان الذي يتحدّى قدره ويصنع مساره الفريد في الحياة. يُقدّم بونفوا نفسه مثالاً حياً لهذا المزج الخصب بين العوالم المختلفة، كونه كاتباً يجمع بين ثقافتين مختلفتين، الفرنسية والفنزويلية، وهو ما ينعكس في هذا العمل الناضج، الذي يحمل بصمته الفريدة: السرد المُتدفق، اللغة الشعرية، الشخصيات الغرائبية، والقدرة على حياكة الأساطير العائلية ضمن نسيج التاريخ الكبير.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى