مينا ناجي: عن الفقدان والرهاب والجنون
صدر أخيراً كتاب «33- عن الفقد والرهاب» (دار المرايا – القاهرة) للكاتب مينا ناجي الذي حاز منحتين أدبيّتين هما منحة التفرّغ للكتابة من مؤسسة «مفردات»، ومنحة دعم الفنانين الاستثنائيّة من مؤسسة «آفاق». ناجي هو كاتب وشاعر مصري، وُلِد عام 1987، نشر كتباً أدبيّة تتنوَّع بين الرواية والشِعر والسرد والقصّة، كما أنه ينتج برنامجاً على منصة يوتيوب يدير من خلاله حوارات حول الثقافة والمعرفة مع كُتّاب مصريّين وأجانب، أبرزهم الفيلسوف سلافوي جيجيك.
يشير الرقم 33 إلى عمر الكاتب، وإلى بلوغه السن التي صلب فيها المسيح. أمر ذو دلالة داخل وعي كل مسيحيّ. يقول ناجي في مقدمة كتابه «إنّ هذا الرقم موجود في نقطةٍ ما في لاشعور كل مسيحي، ربما كعلامة على اكتمالٍ أو نهاية. وكما أشار فوكو بذكاء، فإنّ عبر طريق الآلام الطويل الذي تبعه المسيح، والذي أخذ فيه على نفسه وَصْمة طبيعة السقوط، كان الجنون هو المرحلة الأخيرة للآلام قبل الموت، لم يختَر يسوع فقط أن يُحاط بالجنون، بل أن يُرى في أعين من حوله كمجنون، وبذلك يكون قد اختبر في تجسده، كل معاناة التعاسة الإنسانيّة. أصبح الجنون إذن، الشكل الأخير، الدرجة النهائيّة للإله في صورة الإنسان، قبل اكتمال وخلاص الصليب».
يعتبر الكتاب فصلاً مقتطعاً من سيرة ذاتية للكاتب، أو على الأدقّ فصلين: واحد عن الحداد على فراق الأم بعنوان «الجنّة هي المكان الذي فيه ماما»، والآخر عن تجربة الكاتب مع رهاب الخلاء. كما في مقولة فوكو، فإنّ ناجي يُزامن الموت والجنون معاً لكن بطريقة عكسية. فإصابته بهذا الرّهاب الذي قد يؤدي إلى الجنون وتحطيم الذات، دفعته طوال الوقت للبحث عن الخلاص، للتطهر حتى يستطيع مواجهة الموت المعنوي والموت المادي الذي تحقق بموت الأُم. لذلك فهو يتعامل مع الكتابة باعتبارها جنوناً مضاداً للجنون الفعلي، جنوناً منظّماً يحاول السيطرة على العقل في إتجاه آخر.
في فصل «الحِداد»، يدمج ناجي يوميّاته بعد وفاة أمه مع قصائد عنها وعن الموت، يتدرّج الحزن من عدم التصديق والهلع من عدم وجودها، إلى الفراغ الذي سبّبه رحيلها المفاجئ، إلى محاولةٍ لتقبّل الحقيقة واختراع حوار بينه وبينها ممتدٍّ من الأرض إلى السماء.
على غرار الفيلسوف الفرنسي رولان بارت، يكتب ناجي يوميات الحداد، باحثاً عن أمه وصانعاً أيقونتها الخاصة من صورتها طفلةً باسمةً على الشاطئ، ليذكّرنا بأنّ حزن الإنسان على أمه واحد في كل مكان وفي كل قلب. يفلت ناجي هذا الحزن العاصف بهدوء «مسيحي» ـــ إذا استطعنا تسميته ذلك ـــ بشاعريّة مطلقة. يبدو هنا الصّراخ ممتداً بلا صوت، ينخر موضع الألم بصمتٍ ودأب. يقول ناجي: «عند الموت، يتحوّل جسد المحبوب إلى عدو . كيانٌ عدائي ومصدر أفكارٍ مرعبة تدمّر الأعصاب. فهمت كيف تشكّلت عقيدة صعود العذراء إلى السماء بالنفس والجسد. فساد جسد المحبوب أمرٌ لا يمكن تخيّله دون أذىً حقيقي، تحديداً جسد الأمّ كما تمثّله العذراء في المسيحية».
يصدر ناجي الفصل الثاني من الكتاب بجملة جيمس جويس «التاريخ كابوس أحاول الإفاقة منه». يمضي في سرد تجربته الخاصة مع رهاب الخلاء الذي يمنعه من الذهاب إلى أماكن لا يعرفها، فكل مكانٍ غريب هو خطر ومهدد في عقل الأغورافوبي، الذي يحوي داخله غالباً شعوراً بالعجز والوضاعة والذنب يصاحبها شعور غير معترف به عادة بالحقد والرغبة في الانتقام. اللّافت هو محاولة ناجي تحييد مرضه، والسيطرة عليه من خلال تحليله وفهم دوافعه والارتقاء به من مجرد مرض شخصي مدمّر إلى دافع لخلق الفِكر، وتحليله كإطار لظاهرة إجتماعية وثقافية يتسم بها العصر الحديث.
استخدم ناجي رهابه كمنظور جديد لتحليل المجتمع الحديث، والقفز على أزمة العالم بعد الاحتجاز الذي سبّبه الوباء العالمي، وطرح أسئلة تخص القاهرة كمدينة غرائبية ومرعبة في بعض الأوقات.
يحلل ناجي الأغورافوبيا كعارض أقليّاتي ـــ كما يطلق عليه ــــ يصف وضع الأقباط في مصر، بعيداً عن المظلومية المعتادة في السردية المسيحية السائدة للوضع في مصر. يكتب ناجي من موقعه داخل أقلية كاثوليكية محاطة بأقلية مسيحية أرثوذوكسية محاطة بأغلبية مسلمة سُنية، تدفع الأقلية الكبيرة أبناءها لتتحدد داخل منطقة اجتماعية- هويّاتية، مستخدمين آليات التجنب والاعتمادية، خوفاً من الآخر العدو، وقد ساعد على ذلك أسلمة المجال العام على مدى عقود، وهذا يفسر ببداهة أنّ الكاثوليكي قد يصاب بالأغورافوبيا في موقعه داخل هامش الهامش.
يرى ناجي أنّ جانباً آخر من الأغورافوبيا الإجتماعية، يتّسم بها النضال السياسي والإجتماعي المعاصر، بحيث أصبح المجال العام فضاءً للحقد العام، مغلّفاً بثياب أخلاقية مضمونها الرغبة في الانتقام من الآخر. وهذا ينطبق في رأيه على الجماعات السياسية وحركات التحرر النسوي وجماعات التعدّد الجنساني وغيرها التي ليس هدفها إيجاد حلول بقدر نفي الآخر المغاير. وبرأيه أن كل هذا ينعكس على «منطق الفن السائد» الذي يقوم على إشباع الرغبات بشكل متخيّل، لتحويل العجز الإنساني إلى شخصيّاتٍ خارقةٍ إلى درجةٍ كاريكاتورية.