
أفكّرُ اليوم بأنّ الكاتب الذي يعاني من قفلة كتابيّة معنّدة قد لا يحتاج لأكثر من ثلاثة أمور بسيطة كي يفكّها ويبدأ بالكتابة؛ مطرٌ مفاجئ يزيل الاعتيادية عن وجه السّماء المغبرّ، فنجانُ قهوة دافئ يشربهُ على مهل مع شخص لا يخاف أن يفسد الجوّ تسريحة شعره؛ وبعضٌ من اللقطات التي توقظ ذاكرته النائمة وتجبرها على منح الدقائق العابرة من يومه كثافتها المستحقّة.
إنّ الدقائق العابرة التي تستحقّ أن أمنحها تلك الكثافة البهيّة ليست كثيرة هذه الأيام فأنا أشعر مؤخّراً بأنّني لا أجد وقتاً كافياً لأتأمّل المواقف والمشاهد والأحداث من حولي بما يكفي لأكتب عنها، لكن بذات الوقت هناك صفة واحدة لا أظنّ أنني أستطيع تجاوزها في أي مكان ألاحظها فيه.
لا أعلم إن كنت أستطيع إعطاءها التسمية الأنسب ولكن يمكن القول بأنها تندرج تحت عناوين أقرب ما تكون إلى الرأفة أو الرّقة أو الحنوّ الفطريّ الذي لا يخالطه رغبةٌ في أن يلفت انتباه أحد.
تجلّت تلك الصفة في عدّة مواقف في الأسابيع الماضية؛ أوّلها كانت لابنة مريض مقبول في الشعبة أتت إلينا لتسألنا إن كانت تستطيع أن تطعم أباها المحضّر للتنظير بعضاً من الطعام لأنه جائع بشدة. أخبرناها بأنّ عليه أن يصبر قليلاً وبأنّ عليهم أن يشغلوه عن الطعام حتى يحين موعد الإجراء. هزّت رأسها وكأنها كانت تعرف الجواب وأخبرتنا بأنّها هي وإخوتها لم يأكلوا منذ الصباح تضامناً مع والدهم المريض فهم لا يستطيعون أن يستمرئوا طعاماً لا يشاركهم فيه.
امرأة ثمانينيّة أخرى كنت أعاينها في قسم الإسعاف تعاني من ألم بطني مفاجئ قدمت على إثره إلى المشفى منذ ساعات الصباح الأولى. كانت سوابقها المرضيّة كافية بالنسبة إليّ لكي أعلم درجة التحمّل الذي يمكن أن يصل إليه مريضٌ مثلها إلا أنني لم أعطِ الموضوع أهمية كبيرة لأنني أعلم بأنّ الألم له عتبات مختلفة عند الناس ولا يوجد معيار موحّد لشدّته لدى الجميع. الأمر الذي جعلني أقف عنده وسط فوضى المكان هو أنني وجدتها تقف بعيداً عن غرف الإسعاف ذوات الستائر تستند إلى يدَي زوجها وحفيدتها. هرعت إليها مستفسرة عن سبب تركها لغرفتها، قالت لي برصانةِ الأجداد وبطئهم المستحبّ بأنّها رأت بأنه من الجدير بها أن تترك المكان لمريض آخر بحاجته لأنها تشعر رغم تألّمها الواضح بأنها شغلت المكان لوقت أكثر ممّا ينبغي. لا أستطيع أن أمسح قولها ذاك من ذاكرتي بنفس الدرجة التي لا أستطيع فيها أن أمحي منظر زوجها وهو يلحق بنا من مكان إلى آخر ليلتقط ما نقوله عن حالتها وليسألنا عن وضعها بشكل متكرر بذات العينين الملهوفتين اللتين لم تفارقهما لمعةُ الدموع ولا لأية لحظة.
سيّدة أخرى كانت بوضع حرج تعاني من رجفان أذيني للمرة الأولى وموضوعة على المونيتور لمراقبة وضع قلبها طلبت منّي بينما كنت أسرّب لها الدواء بأن أذهب إلى شابّ يقف قبالتنا وهو يحمل طفلاً صغيراَ يبدو أنه لا يتجاوز عدة أشهر لأقول له بأن ينتظر خارجاً لكيلا يصيب الطفل أية عدوى.
إنّ تلك التفاصيل الصغيرة تلفتني دوماً وتجعلني أفكّر بأنّ مَن يحيا بقلبه لا يموت، وبأنّ الحبّ هو الطاقة الأبقى في هذا الكون مهما زاد طغيان الكراهية وجبروتها.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة