كتب

نائلة الشقراوي تبحث في العوالم الموازية للمسارات الضيقة

 

الكتابة الإبداعية لم تكن صنعة أو مهمة أو فنا بعينه، بل هي تنفلت من كل تعريف تقني، لتدخر الكشف عن الكائن الأساسي في داخل الإنسان، أو بالأحرى التماثل مع الحياة ذاتها، لتغدو مناجاة مسموعة وزخارف لحظ وقصص تتماهى بين جدلية الألم والأمل، لتتجذر في مضمار الأدب المخاتل بنوازعه ومؤثراته اللغوية مهما كان صنفها. فهناك تقارب بين القصة القصيرة والقصيدة كاستخدام الأساليب الشعرية والتوسع في استخدام المجاز والصور واستلهام روح الخاطرة أو التعبير السردي المراوغ.

ولعلّ المتتالية القصصية “المدن الضيقة” للإعلامية والكاتبة التونسية نائلة شقراوي، الصادرة مؤخرا عن دار الكتاب للنشر، تنحاز جهة التقاطعات اليومية التي تخوضها المرأة خصوصا، لتستبطن باقة من الإشارات والدلالات بمنتهى المهارة والجزالة، وهي ترصد صوت الأنثى، ليقودها إلى مساحات متشعبة تسكنها. فتطل علينا النصوص ببصيرة شاعرة مرهفة الإحساس، مكللة بمعجم أدبي بامتياز، فلا تنقاد إلى الأحاجي والثرثرة، بل تمنح النص روحا تجعله أسمى من كل مقايسة أو مفهوم، لتسليط الضوء على ظواهر وتوترات مختلفة، بأبعادها المتشابكة من الهموم والمفارقات والأسرار، في نسيجها العاطفي والاجتماعي والديني أيضا.

والملاحظ أنّها كتبت هذه النصوص بنبض أنثى لم تبارح جنسها، بل سخّرت مشاعر الحب ولكنة الرقيّ بذلك الجوهر الفريد الذي تنبثق منه، بين التدفق، الحرارة، والعفوية، كصورة بلا إطار، لتؤتي سرّها الدفين مقرونا بالحيرة والقلق لقد تمكنت من النفاذ إلى عوالم المرأة، لتتكفل بإظهار انكساراتها وأحلامها. “لكن قلبها الضعيف المتواطئ مع التتيّم به تعوّد ألا يجادله، فقط، يحيا ليالي بيضاء. فقط تعيش هي مع ذاك الصراع المتعب بأحلامها. مع أطياف لنساء لا ملامح محددة لهن سوى ما ورد في قصائد لا تشبهها”. (ص20/21)

كذلك ينبغي ملاحظة أنها رسّخت رؤيتها المتجذرة من تعقب جملة من المفارقات، حشرتها في تفاصيل نصوصها، حتى لا يضيع شيء في العلاقة الجدلية بين المرأة والرجل، كرحلة مجنونة في (جنات وهم).

“كيف لم أعرف أنك معي بنفس الرحلة؟ مجنون أحبك يا أنت… لا أحتاج غيرك. وهمك هو واقعي.. ما نحياه هو الحقيقة المطلقة” (ص25).

كمن يبحث عن وجود مغاير بمنأى عن تلك المناطق الموبوءة بقبح العالم بين الظلم والظلامية، والظلال المٌشرّدة في غياهب الحياة ومنعرج العلاقات الظاهرة والخفية، باستحضار خطاب مسكون بالذات المٌعوّلة على الوعي الشقيّ والقيم الإنسانية بكل تجليّاتها.

“كل عمري وثقت وسأظل. ينتظرنا الكثير حتى نصلح ما ارتكبته بحقك وحق غيرك، تنتظرنا تضحيات كبيرة. أن تتطهر لا بد من الاعتراف علنا وتقبل حكم المجتمع لا حكمي” (ص47).

واعتمدت الكاتبة على لغة سلسة، بسيطة ومركبة في آن واحد، لكنها تشكّل المعاني بتقنية حديثة، ومقام خطابي أغلب الوقت، يفضي إلى الحوار بين شخصين واقعيّين وذاتين متصلتين “ساجد” و”ملاك”، تجسيدا للرابط القوي بينهما، فاستعملت المناظرة المتداخلة مع نمط أدبي جمالي وسبك صور التفكير وأبعاده الدلالية، من خلال سياقات النصوص، لتفجّر طاقات اللغة العاطفية والعقلية.

أفاضت الشقراوي في استقطاب عوالم موازية للمدن الضيقة المتحيزة للوهم والخواء، لكنها متسعة في نسيجها ومعناها، تسكنها كائناتها الحبريّة، وهي تبحث عن طريق أرحب وبيئة نموذجية وفقا لمقومات الإنسانية، دون انتهاك للسلام وإقصاء للحب وهدم للحقيقة.

“وأيّ حقيقة لعالم لا مشاعر به، مٌزيف نبضَ كونه” (ص35).

 

 

ميدل إيست اون لاين

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى