«نادي الشرق» السعيد في كازينو الدراما النظيفة
خلطة السوق والسياسة والدراما واضحة في «العرّاب ـ نادي الشرق»، إذ اختار كل من مخرجه حاتم علي وكاتبه رافي وهبي خلاصة سينما العصابات والجريمة لصناعة مسلسل تلفزيوني. خيار ذكيّ، وموائم لسوق العرض الجديدة، لكنّه وقع في مفارقة شطب مدن سورية بالكامل عن خريطة الأحداث، عبر كوادر ضيّقة زوّرت المكان، فيما استنفدت عشرات المشاهد المصورة مدينتي دبي وبيروت كمكانين متاحين أمام المخرج.
بالدخول أكثر إلى المادة الأساسيّة التي عوّل عليها «العرّاب ـ نادي الشرق» نطل على شخصيات رئيسة لا نعرف لها أسماءً سوى ألقابها وكناها: أبو عليا، أبو موسى، أبو مصعب، أبو وائل، أبو إياد… وسواها من الكنى والألقاب التي تهدينا مباشرةً إلى شطب الأسماء الخاصة بهذه الشخصيات وجعلها مفتوحة على الإسقاط السياسي. كما هو معروف، فإنّ الكِنى في الثقافة العربيّة هي نوع من التعظيم والإخفاء، لكنها في «نادي الشرق» ليست كذلك وحسب، بل هي تعمل عملها مباشرةً في صناعة الشرّ، والإطلالة أكثر فأكثر على واقع عائلة حاكمة ذات طابع مافياوي، لتشير مباشرةً إلى تجريم طبقات بعينها. رؤية غير متوازنة من جهة تقديم هذه الشخصيات على أنها ذات منشأ ريفي، كما هو واضح من مشهد العرس المطوّل الذي افتتح به المسلسل حلقاته. يبدو ذلك أكثر استفزازاً على الشاشة، وأكثر لعباً بحقيقة الوقائع التي تبرّئ في «عراب» حاتم علي طبقات البرجوازية والتجار والإقطاعيات الريعية الموجودة داخل المجتمع السوري، وإحالة جريمة بحجم بلاد إلى طبقة من فلاحين وصلوا إلى مكاتب النفوذ والسلطة فدمّروا البلاد، واغتصــبوها عبر شبكات البغاء والتهريب وحــكم الموانئ والصحف المسخّرة لمصالحهم. يبدو العمل كأنّه يحيل بلاء السلطة على طبقة تبدو وكأنــها غريــبة عن مجتمعها، يحكمــها أبناء العم وبناتــه من دون أي إشــارة واضحــة لبقية الطبقات الــتي ساهمت في صعود هذا النوع من حكام المكاتب وسكان القصور وساهمت في نهب المال العام وتطبيق «البزنس» بمباركة رجال الشرائع والعمامات.
العمل مكتوب بطريقة مشوّقة للغاية، نجح في تصعيد ثلاث حبكات درامية، فمن حبكة التمهيد والتعريف بالشخصيات وتمايزها عن سواها داخل الكادر، إلى حبكة المواجهة التي تتفرَّع لصراعات بين أفراد عائلة أبو عليا ـ أولاده وبناته وفروعهم في أخوته وأبنائه ـ وبين خصوم أبو عليا وحراسه وكلابه، جنباً إلى جنب مع قصة الكاتب نورس (حاتم علي) وتلك العلاقة الساحرة التي تنشأ بينه وبين الإبنة الصغرى لأبي عليا لونا (ريم نصر الدين)، ووالدته (منى واصف)، وأخته (نور أحمد)، وزوجها رجل الأمن (أندريه سكاف)، وما انتهى إليه حال الكاتب والروائي الذي يسكن في الكباس، الحي العشوائي على أطراف دمشق، والذي عّوضه المخرج بمشاهد في شوارع مشابهة على أطراف بيروت.
هذه المواجهة بين كاتب وابنة سلطان كانت الأقوى في العمل، وخلَّصته إلى حدٍ بعيد من التنميط والقياس على «عراب» ماريو بوزو وفرنسيس كوبولا، بل تخطته في كثير من الأحيان إلى شخصيات ذات حضور إنساني طاغٍ، ليكون بمثابة المقاربة الوحيدة بين عالم الفقراء والهامش، وبين عالم الأغنياء وجبروت السلطة. إذ ينتهي الأستاذ الجامعي والروائي نورس وراء قضبان معتقلات أبو عليا وابنه قيصر (باسم ياخور)، على خلفية اختباء لونا في بيته. فيما لمعت منى واصف من جديد في دور أم نورس وبأداء عالي النبرة، جعل من نشيج الأم واستغاثاتها المحمومة على أبواب قصور وسيارات وحراس قصور أبو عليا مجابهة مؤثرة وكاشفة عن عدمية السلطة وعماها.
بالمقابل برز لـ»عراب ـ نادي الشرق» كمحاكاة ناقصة عن الصهارة الاجتماعية السورية التي مهدت للانفجار. وظّف مخرج العمل وكاتبه في آن إشارات عديدة للإسقاط مباشرةً على طبيعة السلطة (زي حراس قصر أبو عليا مثالاً)، بينما شطب المجتمع السوري برمته، سواء في التناول الدرامي لمعظم الشخصيات التي تنتمي إلى «العائلة الحاكمة»، أو حتى من جهة التركيز على كازينو السياسة والأرباح والشركات العابرة للجنسيات. ولهذا تظهر الدراما هنا معقّمة تماماً من أي حضور لقوى المجتمع وتنويعاته وتعدد أصواته، مكتفيةً بكواليس القصور ومؤامرات المال وسهرات البوكر.
أحداث تتابع كادراً تلو كادر من دون أن نرى أثراً لبشر طبيعيين، بشر من لحم ودم. الجميع هنا في مكان خطر ومحاصر، نقلات الكاميرا وموسيقى إياد الريماوي ذات الطابع الأوركسترالي ركزت هي الأخرى على ذلك، جنباً إلى جنب مع البذخ الواضح في الديكورات والأزياء وسيارات المواكب. ففي حين اهتم العمل بتوصيف طبيعة المافيا العربية الجديدة، وسيطرتها على عصب الاقتصاد عبر تحالفات كومبرادور سيطر على السوق الوطنية وثروات البلاد، تخلت الدراما السورية ولأول مرة عن هموم جمهورها، مبدلةً ذلك بالإبهار البصري، ومحاولة تخدير المشاهد بصراع يقوده غيلان ونساء شرهات للمال وطاولات القمار. فالعمل بدلاً من أن يفضح ممارسات هؤلاء، سعى مجدداً إلى أسطرة السلطة ورجالاتــها، ممعناً مرةً أخرى بخــداع الجمــهور على حساب مزاج سوق العرض، والتي تآمرت هي الأخرى على تنظيف الناس والأمكنة السورية من الكادر… ونهائياً.
صحيفة السفير اللبنانية