لا يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في وارد الاستجابة، في هذه المرحلة على الأقل، لمطالب المؤسسة الأمنية بضرورة إنهاء العمليات في محور «نتساريم» القائم في وسط قطاع الغزة، والذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه، وأضحى شوكة في حلق الغزيين، الذين تحشر العمليات العسكرية أكثر من مليون ونصف مليون منهم في مساحة لا تزيد نسبتها على 10% من المساحة الإجمالية للقطاع. وأعلن جيش الاحتلال، أخيراً، توسيع مساحة الموقع الذي استحدثه على «نتساريم» في الاتجاهين الشمالي والجنوبي، فيما يتزايد الجدل حول دوافع هذا السلوك، على رغم ازدياد ضربات المقاومة، وتعاظم قدرتها على العمل المنجز الذي يتسبّب بخسائر بشرية في صفوف جيش الاحتلال هناك.
ماذا في «نتساريم»؟
بوسع الاحتلال أن يحقّق هدفاً آنياً من خلال احتلاله لهذا المحور الضيق، يتمثّل في الاحتفاظ بورقة تفاوض قوية تمسّ حياة كل سكان غزة، والذين شتّت العدو عائلاتهم ما بين شمال القطاع وجنوبه. غير أن هذه الخاصرة الضيقة، يحتاج تأمينها إلى فرقة كاملة من الجيش، ستكون طوال الوقت عرضة للرصد والاستهداف، ليس بواسطة قذائف الهاون والصواريخ التكتيكية القصيرة المدى فحسب، وإنما بالإغارة والاقتحام. وقد قدّمت عملية الإغارة التي نفّذها أربعة عناصر من «كتائب القسام» الأسبوع الماضي، واستطاعوا خلالها التوغّل إلى عمق المحور، حيث فجّروا سيارتين عسكريتين إسرائيليتين بعبوات شديدة الانفجار، نموذجاً من العمل العسكري المرتقب هناك، إذا قرّر العدو الإبقاء على قواته في فترة ما بعد انتهاء العمليات العسكرية الكبرى، خصوصاً أن البقاء في هذا المحور من عدمه، ظل خلال سنوات الانتفاضة الثانية 2000 – 2004 محل جدل في أوساط المؤسّستين العسكرية والسياسية، أفضى بعد استنزاف استمر أربع سنوات، إلى أن يتّخذ رئيس وزراء الاحتلال الأكثر تشدّداً وراديكالية، أرييل شارون، قراراً بإخلائه. والجدير ذكره، هنا، أنه آنذاك، لم تكن المقاومة تمتلك من الخبرة والإمكانات والمخزون البشري عُشر ما تمتلكه الآن، وقد نفّذت حينها نحو سبع عمليات اقتحام واختراق، تسبّبت بمقتل 15 جندياً خلال 4 سنوات، فيما يقرّ جيش الاحتلال اليوم بأن خسائره في هذا المحور فقط تجاوزت الـ25 جندياً قتيلاً خلال 10 أشهر.
نتنياهو يدرك أن البقاء في «نتساريم» يعني منح المقاومة قدرة على إيقاع الخسائر، وبالتالي فإن الانسحاب حتمي
وعلى صعيد الطرح الخيالي المتمثل في إعادة الاستيطان إلى القطاع، يكفي التذكير بأن واحداً من دوافع الانسحاب من غزة عام 2004، كان الاستنزاف الكبير لطاقات جيش العدو، حيث لم يتجاوز عدد المستوطنين الذين سكنوا 20 نقطة استيطانية في القطاع خلال 36 عاماً من احتلاله، الـ8000 مستوطن، احتاجوا إلى إشغال نحو 20 ألف جندي لتأمين تلك المستوطنات وحمايتها، ما يعني أن كل مستوطن كان بحاجة إلى 2.5 جندي لحمايته وتأمينه.
وبالعودة إلى البحث عن أهداف نتنياهو من التمسك بهذا المحور، فهو يدرك أن فكرة البقاء فيه تعني منح المقاومة قدرة على مواصلة الاحتكاك وإيقاع الخسائر البشرية في صفوف جيش الاحتلال. كما يدرك أن الانسحاب من «نتساريم» حتمي، سواء في خلال هذه الحرب أو حتى إذا قرر البقاء إلى ما بعد وقف إطلاق النار، بالنظر إلى أنه سيفتح على نفسه محور استنزاف مستمر، ينسف فكرة تسكين الجبهات التي قامت عليها فلسفته خلال العقدين الماضيين. ولذلك، فإن أداءه مرتبط على ما يبدو ببعد نفسي عميق، كان مراسل قناة «كان» الإسرائيلية الناطقة بالعربية قد عبّر عنه في إحدى رسائله، حيث قال إن الانسحاب من المحور من دون تحقيق أيّ من منجزات الحرب، سيضع نتنياهو أمام معادلة صورة الانتصار والإنجاز، إذ سيعود سكان شمال القطاع إلى المناطق التي يسكنونها، من دون أن يتمكّن من إقناع الآلاف من المستوطنين الذين كانوا يسكنون مستوطنات غلاف غزة، بالعودة مجدداً إلى مستوطناتهم، وهم الذين أعلنوا في ما يشبه القرار الجمعي، أنهم لن يعودوا إلى «مسرح السابع من أكتوبر» ما دام الفلسطينيون جيرانهم.
صحيفة الاخبار اللبنانية