تسعى “إسرائيل” التي فشلت في إحداث إرباك داخلي في جبهة حزب الله بعد عمليات تفجير أجهزة اللاسلكي وعمليات الاغتيال لقادة الرضوان إلى أن تضغط الآن وبكامل قوتها النارية الجوية الجنونية.
أخيراً، قرر نتنياهو أن يحوّل استعراض فائض القوة التكنولوجية والنارية التي تملكها “إسرائيل” إلى جبهة شمال فلسطين المحتلة مع حزب الله، ولم يغفل أن يرافق هذا التحول بعروضه الإعلامية الاستعراضية المعهودة أمام عدسات كاميرات الإعلام، مُذكراً جمهوره بمدى تصميمه على تغيير الواقع في الشمال وعزمه على إعادة مستوطنيه إلى مستوطناتهم، ومتباهياً بأنه انتقل لتحقيق هذا الغرض من الرد إلى المبادرة.
بالطبع، لم ينسَ نتنياهو “البهلوان” أن يُصاحب هذا كله بضخ هستيري من ماكينة الإعلام الإسرائيلي الموجّه والمُجند لأخبار مفبركة وأرقام مُضخّمة حول استهداف الطيران الإسرائيلي مئات فوهات إطلاق الصواريخ ومخازن الأسلحة التابعة لحزب الله في محاولة لطمأنة الداخل الإسرائيلي وخلق انطباعٍ بأن الأمور تسير وفق ما تشتهي “إسرائيل” وبأنها تُحقق إنجازاتٍ مُهمة ومتتالية.
ما لم يقله نتنياهو، ولن نسمعه منه بالمطلق، هو أنه يشعر بالضغط والإرباك الشديدين، لأنه ببساطة لا يملك رفاهية الوقت الكافي لتحقيق أهدافه المُعلنة من إجبار حزب الله على الفصل بين جبهتي لبنان وغزة وإعادة مستوطني الشمال إلى مستوطناتهم، سواء بقيت المواجهة بوتيرتها الاستنزافية الحالية تحت عتبة الحرب الشاملة، أو خرجت الأمور عن السيطرة وذهب الطرفان إلى مواجهة مفتوحة واسعة من دون ضوابط أو قيود، فنتنياهو يعلم يقيناً أنه سرعان ما سيعترف ويقر، ولو ضمناً، بأن الأمر ليس بهذه السهولة، كما أنه ليس بهذه السرعة.
تسعى “إسرائيل” التي فشلت في إحداث إرباك داخلي في جبهة حزب الله بعد عمليات تفجير أجهزة اللاسلكي وعمليات الاغتيال لقادة الرضوان إلى أن تضغط الآن وبكامل قوتها النارية الجوية الجنونية، وخصوصاً بعدما بدأت بسياسة بث الرعب وخلق مأساة إنسانية عبر دفع السكان إلى النزوح نتيجة قصف المنازل المدنية، بذريعة أن حزب الله يُخبئ تحتها مستودعات أسلحة ومنصات إطلاق صواريخ، لجره إلى ردٍ انفعالي انتقامي غير مُنضبط يستخدم فيه أقصى قوته النارية على عمق الداخل الاستيطاني “المدني”، لتستغل “إسرائيل” ذلك في الذهاب إلى الحرب الواسعة الشاملة على عجل، بما يضمن لها تقصير زمن المواجهة الحالية وإحراق مراحل المعركة التي يراهن حزب الله اليوم على إطالتها قدر الإمكان لاستنزاف جبهة “إسرائيل” الداخلية وتكبيدها أكبر قدر ممكن من الأثمان.
إضافة إلى تقصير زمن المواجهة، فإن الرهان الإسرائيلي بأن جر حزب الله لاستخدام كامل قوته النارية في بداية المواجهة الحالية يعني أن الحزب لن يبقي في ترسانته ما يُهدد به “إسرائيل” لاحقاً بعد أن يصل ذروة الاستخدام الناري بإطلاق صواريخه الاستراتيجية الدقيقة التي من المفترض أن يحتفظ بها كعامل ردع في ما إذا اضطر إلى استخدامها في مرحلة لاحقة من المواجهة الاستنزافية أو في حال الذهاب إلى الحرب الشاملة.
زد على ذلك أن الانجرار الآن خلف الرغبة الإسرائيلية المُلحة، وإن كانت تُبدي عكس ذلك، في الدخول إلى مواجهة شاملة يعني أن الحزب يمنح “إسرائيل” الفرصة للانقضاض على كامل لبنان وكامل بيروت دون ضوابط، وبالتالي يضع حزب الله نفسه أمام أزمة داخلية مُركبة، خصوصاً مع خصومه السياسيين الذين سيتخذون من الاستهداف الإسرائيلي لكامل لبنان ذريعة لزيادة انتقاد الحزب على استمرار تمسكه بهذه المعركة لمصلحة فلسطين ومقاومتها.
تدرك “إسرائيل” بشكل لا لبس فيه، وهي تتصرف اليوم بغضب وانفعال شديدين، أن عامل الوقت ليس في مصلحتها، وتعلم أن حزب الله يلعب على هذا الوتر بشكل جيد، ويفوت عليها، رغم ما يتكبده من خسائر مؤلمة في بيئته المدنية، الفرصة لجرّه لكسر قواعد الاشتباك التقليدية التي يتقن الانتقال فيها من وتيرة استهداف إلى أخرى ويضاعف فيها من نزف جبهة “إسرائيل” الداخلية التي تراهن القيادة السياسية الإسرائيلية على “صبرها ورباطة جأشها لتحقيق الانتصار”، وفق ما صرح به اليوم وزير حرب الاحتلال غالانت.
لذا، تسابق “إسرائيل” الزمن في محاولة للوصول إلى نهاية سريعة لجولات القتال الحالية عبر قوة النار الجوية والضغط على السكان المدنيين لدفعهم إلى النزوح، وهي تعلم أنه كلما طال أمد المواجهة فإن ما تسميه بنك الأهداف في جبهة حزب الله لن يعود متاحاً، وسرعان ما يكتشف الجمهور الإسرائيلي أن حكومته تدور به في دائرة المراوحة حول كذبة استهداف فوهات إطلاق الصواريخ وتضخيم الحديث عن إضعاف قدرات حزب الله العسكرية للهروب من عدم تمكّنها على الأقل من إعادة مستوطن واحد إلى المستوطنات المُخلاة، في حين يستمر حزب الله، وعبر توسيع مديات الاستهداف ونوعية الأسلحة التي يستخدمها، في تكبيد الجبهة الداخلية الإسرائيلية المزيد من الخسائر عبر الدفع بمزيد من المستوطنين إلى النزوح من مستوطنات في عمق الداخل الفلسطيني المحتل، إضافة إلى تعطيل وشل أوجه الحياة العامة في مختلف المستوطنات الإسرائيلية، بما يضمن انقلاب المزاج العام الداخلي الإسرائيلي سريعاً ضد الحرب.
يدرك حزب الله جيداً أن رهانه على مقدرته المتأنية على تطوير إيقاع المواجهة عبر استمرار توجيه ضربات قوية لكسر حالة التأييد الداخلية الإسرائيلية يحتاج إلى وقت واستمرارية ومراكمة، مع استمرار التصرف بحكمة ومسؤولية بعيداً عن انفعالات الرغبة في الحرب المفتوحة التي يعلم أنه قد يُضطر إلى خوضها لاحقاً، وهو لا يخشاها، لكنه لا يستعجلها “وفق التوقيت الإسرائيلي” الذي ربما يخدم نتنياهو بشكل أكبر، وهو يراهن على فائض قوته النارية الجوية لحسم المعركة سريعاً لمصلحته.
خلاصة الأمر، سيدرك الجمهور الإسرائيلي، ومعه بعض المُبخّسين والشامتين العرب قريباً، أن منطق القوة لن يجدي مع حزب الله نفعاً، وأن عنجهية قادة “إسرائيل” السياسيين والعسكريين سيكون مردودها عكسياً عليهم، وأن الشعارات والأكاذيب التي يجري تغذيتها والنفخ فيها في وسائل الإعلام الإسرائيلية ليست إلا وسيلة للتغطية على الفشل عن طريق استعراضٍ عبثي للانتصار على حزب الله، الذي يبدو واثقاً بأنه يعرف أي سلاح يستخدم وفي أي مدى ومتى!
الميادين نت