نتيجة خافية لزيارة بايدن بعيداً عن مخرجات قمّة جدّة
سبق زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن الأخيرة لمنطقة المشرق العربي وقمّة جدّة صخب إعلامي كبير، وتحليلات كثيرة، وتوقعات عالية السقوف. تحدّث البعض عن تشكيل “ناتو” عربي إسرائيلي لم يأتِ ذكره، ولو تلميحاً، في مخرجات قمّة جدّة، وآخرون تحدثوا عن اتفاقيات تطبيع جديدة، ولا سيما مع السعودية، لم ترَ النور، رغم بعض التطورات الشكلية في العلاقة السعودية الإسرائيلية، ناهيك بالسقف المرتفع الذي قال به الرئيس الأميركي ذاته خلال زيارته، حين أشار إلى أن الولايات المتحدة الأميركية لن تسمح للصين وروسيا بملء فراغ السلطة في الشرق الأوسط، إذ قال: “سنواصل القيادة في المنطقة، ولن نخلق فراغاً تملأه الصين أو روسيا ضد مصالح كل من إسرائيل والولايات المتحدة”.
بناءً على تلك التوقعات المرتفعة لقمّة جدّة التي قال بها البعض، سواء بحسن نية أو نتيجة ارتباطهم بالمشروع الأميركي، كان يفترض أن تخرج الولايات المتحدة الأميركية بعد زيارة بايدن وقد عززت زعامتها في المنطقة، وغيرت توازنات قائمة بين المحاور في منطقتي المشرق العربي ووسط آسيا، ورسمت مسارات جديدة للأحداث في الإقليم والعالم على حد سواء.
لكن ما حصل في الواقع كان أنَّ الولايات المتحدة الأميركية سجّلت فشلاً جديداً في هذه الزيارة لسياساتها ضمن مسار تراجع هيمنتها على مستوى العالم، وضمن مسارات صعود قطبين دوليين شرقيين، وتبلور مراكز قوى إقليمية بين دول الجنوب. كل ذلك يجري في حقبةٍ قادمة يتم تدشين أسسها لعالم ما بعد الهيمنة الغربية.
إنَّ التوازنات التي رسمها محور القدس في مواجهة المحور الصهيو-أميركي تعد تجسيداً لاختلال حقيقي في موازين القوى لغير مصلحة الأخير. هذا الاختلال في موازين القوى لا يمكن تعديله بزيارات أو قمم لا تكون مستندة إلى عمل ميداني، كما كان حال قمّة جدّة.
يُضاف إلى ذلك، ورغم ادعاء الولايات المتحدة عزمها على منع حدوث فراغ في السلطة تملأه كلٌ من الصين وروسيا، أنَّ أولويتها الحقيقية تبقى مواجهة الصين في بحر الصين الجنوبي ومنطقة شرق آسيا، فقد جرّبت الولايات المتحدة الأميركية حظوظها عبر عدة حروب شنتها في منطقتي المشرق العربي وغرب آسيا خلال العشرية الأولى من هذا القرن.
وكان الهدف الأميركي الاستراتيجي من تلك الحروب يتمثل بإحكام السيطرة بشكل مطلق على مصادر الطاقة العالمية وممرات التجارة البحرية، كما البرية، عبر أفغانستان، بما يتيح لها السيطرة على مسار تطور الصين، وكذلك روسيا، لكن الولايات المتحدة الأميركية منيت بفشل استراتيجي في كل تلك الحروب، ما دفعها إلى الهروب إلى الإمام في محاولة لمواجهة الصين في محيطها الجيوسياسي المباشر، وأيضاً محاولة مواجهة روسيا في محيطها عبر افتعال حرب أوكرانيا، فهل يكون من المنطق أن تعود أميركا لتكرار تجربتها الفاشلة في منطقتي المشرق العربي وغرب آسيا؟
وكان يمكن التوقف عند هذا القدر في قراءة مفاعيل زيارة المشرق العربي لولا وجود معطى آخر يتمثل بالهدف الرئيسي من زيارة بايدن للمنطقة، وارتباط هذا الهدف بشكل مباشر بتطور جوهري يتمثل بتصعيد حزب الله في منطقة شرق المتوسط.
هناك شبه إجماع على أن الهدف الأساسي من زيارة بايدن كان الضغط على دول الخليج لزيادة صادراتها من النفط الخام والغاز الطبيعي للأسواق العالمية، في محاولة أميركية للتخفيف من الأعباء الأوروبية نتيجة حرب الغاز والطاقة المستعرة بين روسيا وأوروبا على خلفية الحرب الأوكرانية.
وبمعزل عن فشل هذا المسعى الأميركي مع دول الخليج في قمّة جدّة، إلا أنَّ حزب الله كان قد واكب وصول بايدن إلى فلسطين المحتلة بتصعيد كبير في وجه الكيان المؤقت على خلفية ملف غاز شرق المتوسط، إذ هدد أمينه العام السيد حسن نصر الله صراحة الكيان المؤقت بالحرب في حال استمر الأميركيّ بمنع لبنان من استخراج الغاز من مياهه الإقليمية والاستفادة منه اقتصادياً، فيما يواصل الكيان المؤقت خطواته العملية نحو سرقة الغاز الطبيعي من الحقول اللبنانية في الساحل اللبناني.
ولا يشكِّل تهديد حزب الله هذا خطراً على نشاطات الكيان المؤقت المرتبطة باستخراج الغاز من شرق المتوسط فحسب، بل إن تداعيات أي حرب يخوضها حزب الله ضد الكيان المؤقت في البحر ستطال غالبية طرق إمدادات الغاز إلى أوروبا عبر منطقة البحر الأبيض المتوسط، وفي هذا تهديد أساسي ومباشر لقدرة الأميركي على ضبط التداعيات الكارثية التي يمكن أن تطال أوروبا نتيجة حرب الطاقة المستعرة بين المعسكر الغربي وروسيا، ما ينعكس سلباً على مجريات الحرب الأوكرانية ضد مصلحة المعسكر الغربي بقيادة أميركا.
ورغم ما تمثله تهديدات حزب الله من خطر أساسي على مسار الحرب الاستراتيجية التي يخوضها الأميركي في أوكرانيا، فإنه فضّل التزام الصمت حيالها، وترك التعقيب للكيان المؤقت.
ويمكن تفسير هذا الصمت الأميركي بكونه نتيجة أداء الأميركي دور الوسيط في المفاوضات غير المباشرة بين الحكومة اللبنانية والكيان المؤقت حول ملف ترسيم الحدود المائية.
لكن من زاوية أخرى، هل يمكن القياس على طريقة تعاطي الأميركي الدبلوماسية مع هذا التطور الإقليمي في أي حرب قادمة متعددة الجبهات في مواجهة الكيان المؤقت؟ بعبارة أخرى، هل يمكن القول إنّ الأميركي لن يدخل بشكل مباشر في أي حرب متعددة الجبهات يمكن أن يخوضها محور القدس ضد العدو الصهيوني، ويكتفي بدعم الكيان المؤقت من الخلف عبر السلاح والدعم اللوجستي؟
يصعب الجزم بالإجابة عن هذا التساؤل، لكن ما بات ملحوظاً في السنوات الأخيرة، ونتيجة تعاظم قدرة إيران العسكرية، أنَّ تركيز الولايات المتحدة الأميركية عليها بات أكثر من تركيزها على باقي قوى المقاومة في الإقليم. مثلاً، ترك الأميركي للسعودية والإمارات ملف التعاطي مع حركة أنصار الله في اليمن، مع اكتفائه بدعم تحالف السعودية من الخلف.
أيضاً، رغم صمت بايدن على تهديدات حزب الله بشن حرب في شرقي المتوسط، فقد قال خلال زيارته إن الخيار العسكري مطروح في مواجهة إيران في حال عدم التوصل إلى اتفاق نووي.
إذا ما أضفنا إلى ذلك الميل الأميركي الواضح إلى تفادي التورّط في حرب جديدة في منطقتنا، تصبح هناك إمكانية لرسم معادلة مفادها: عدم دخول الأميركي بشكل مباشر في أي حرب قادمة متعددة الجبهات مع الكيان المؤقت، يقابله امتناع إيران عن الدخول بصورة مباشرة في تلك الحرب، والحديث هنا فقط عن الدخول المباشر بالحرب، الذي لا يشمل بالطبع الدعم التسليحي واللوجستي من قبل أميركا وإيران كلٌ لحلفائه.
ليس هيناً تثبيت معادلة كهذه، نظراً إلى مدى ارتباط الكيان المؤقت بالولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى عِظَم حجم النفوذ الصهيوني في داخل الإدارة الأميركية، أياً كانت، إلا أنَّ التراجع الذي تشهده الولايات المتحدة الأميركية عموماً، وانشغالها في عدة ساحات أخرى تمثل لها تهديداً استراتيجياً بحسب التوصيف الأميركي، إضافةً إلى تعاظم القدرة العسكرية الإيرانية، إذ إنها باتت تشكل تهديداً لا يستهان به للقواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في المشرق العربي ومنطقة الخليج، إذا ما أخذنا بالحسبان هذه العوامل مجتمعة، يمكن القول إنَّ التوازنات الإقليمية والدولية المستجدة باتت تسمح بالتفكير في المعادلة الآنفة الذكر.
يمكن لقادة محور القدس التعامل مع هذه السردية على أنها نقاش مفتوح، في سبيل صياغة تكتيكات من الممكن أن تجعل المعادلة الآنفة الذكر قواعد اشتباك معمولاً بها.