نجم ترامب لا يأفل: شتاء أميركا الطويل

 

ظلّ دونالد ترامب يردِّد، على مدى الشهرين الفائتين، أن خللاً كبيراً في آليات التصويت منعَه من تبوّء منصبه لولاية ثانية. نظريّته هذه سلكت طريقها في صفوف مريدين كثر ضاقوا ذرعاً بالنظام الأميركي ومؤسّساته. ولكنها خلقت واقعاً مزدوجاً، يبدو تجاوزه شبه مستحيل في ظلّ الإدارة المقبلة التي باركت خطوة الحزب الديموقراطي للمضيّ قدماً في إطلاق إجراءات المحاكمة الثانية على وقع اقتحام مبنى الكونغرس العريق من قِبَل مَن باتوا يوصفون بـ»الغوغاء». واقعٌ فرضة الرئيس الأميركي المنصرف الذي اكتفى بإدانة الفعل، من دون التراجع عن السرديّة التي كانت من الأسباب الرئيسة للإقدام عليه، أي الإقرار بالهزيمة، وهو ما يفتح على احتمالات فوضى واسعة، ربّما تكون غزوة الـ»كابيتول» ألطفها.

لو كان الأمر بيدِه، لأعاد دونالد ترامب عقارب الساعة إلى الوراء، إلى لحظة الانتكاسة الأولى، وأيّ انتكاسة تلك؟ هل لها شكل أو اسم أو تاريخ؟ وما الذي يشغله أكثر: هل هي الهزيمة التي لم يرَها قادمة، أم العجز الذي بات يكبّله وهو يحثّ الخطى بعيداً عن عرش لا يزال يعاند أحقيّة ملكيّته؟ على رغم انتكاساته الكثيرة، يُقال إنه ما انفكّ يخفق منذ أن زار طيف «كورونا» بلاد العمّ سام. هامَ على وجهه بحثاً عن سحر يطرد الضيف الغريب. لكن خريف ترامب حلّ باكراً جداً، والضيف لمّا يزل في الدار، مرتكباً «11 أيلول» جديدة كلّ يوم، من دون أن يوقفه أحد. لا أحد يمضي في حال سبيله قبل موعده، وللضيف أطوار غريبة لم تَحسب لها «بلاد العالم» أيّ حساب.

الشتاء، لا ريب، طويل جداً في أميركا، والرئيس ربّما يبقى في مكانه، حتّى انقضاء مدّته في الـ 20 من هذا الشهر. لم يشأ ترامب مغادرة منصبه بلا عراضة، والاستسلام لخصم كان، في أحسن الأحوال، سيتلّقى خسارةً مذلّة أمام رئيس إمبراطوري ظنَّ يوماً أنه لا يُهزم. لكن الأحوال تبدّلت كثيراً في غضون عامٍ واحد، لتتجلّى طبقات العجز المتراكمة لدى إدارة ما فتئت تجاهر بمنجزاتها على مستوى الاستجابة للوباء، وهي ترفض، حتى الآن، الاعتراف بالإخفاقات التي ارتكبتها في هذا المجال. في الصورة الكبيرة، يمكن إلقاء خسارة ترامب على وباء سمّم عاماً انتخابياً كان سيُخصَّص، في الأحوال العادية، للتركيز على «معجزات» رئاسة ترامب، على المستويَين الداخلي والخارجي. لكن اشتغال الحزب الديموقراطي لتحجيم الظاهرة الغريبة، بدأ باكراً جداً، قبل موعد حلول الضيف بسنوات.

محاكمتان وثلاث مؤامرات

خلق الحزب الديموقراطي، منذ سقوط ترامب على الرئاسة الأميركية في عام 2016، واقعاً مزدوجاً، ليعزِّز سرديّته في مواجهة خصمه اللدود. واستطاع إزاءه، على مدى سنواتٍ أربع، تطويع مؤسسات الإعلام الليبرالية الكبرى لبناء قضية تجعل من هذا الخصم غير ذي أهليّة لمواصلة مهمّاته. واتّضح، بعد بطلان مزاعم «المؤامرة الروسية» التي تبنّاها الديموقراطيون وبنوا سياستهم استناداً إليها، وتقرير المحقّق الخاص، روبرت مولر، الذي فرمل اندفاعة التحقيق لعدم كفاية الأدلة لاتهام بهذا الحجم، أن الحزب العريق يرفض إجراء مراجعةٍ ذاتية، أو نقد التجربة الطويلة التي حوّلت الخصم في البيت الأبيض، إلى عدوّ، ما لبث يزداد عداءً واندفاعاً. في هذه الأثناء، كان الشرخ السياسي يتعاظم، في موازاة انقسام اجتماعي مترسِّخ عزّزته آليات الحكم في الفترة الماضية. كتلة اللهب هذه ظلّت تتغذّى يومياً على وقع الاستقطاب الحادّ، إلى أن انفجرت يوم السادس من الشهر الجاري، في قلب مؤسّسة الكونغرس. مردُّ انفجارها في هذا التوقيت، عاملان: الأوّل، اعتقاد طيف واسع من الأميركيين الذين صوّتوا لرئيسهم بأن مؤامرةً حيكت في الظلام لاستبعاد ترامب الذي غذّت خطاباته ورفضه الاعتراف بالهزيمة «المدبّرة»، حالة اليقين لدى هؤلاء. في هذه الحالة أيضاً، صنع الرئيس المغادر واقعاً مزدوجاً، بات يعيش داخله 75 مليون أميركي من الذين يصدّقون سرديته حول مزاعم تزوير الانتخابات. والثاني، افتقار جو بايدن، في هذه المرحلة الدقيقة، إلى القدرة على تبنّي خطابٍ يهدّئ، ولو قليلاً، من حدّة الانقسام المتزايد.

قبل ظهور الوباء الذي ساهمت تداعياته على مستوى الولايات المتحدة في تدمير حظوظ ترامب للفوز بولاية ثانية، استهدى الحزب الديموقراطي إلى مؤامرة جديدة ستنعقد تحت عنوانها المحاكمة الأولى. ولمّا فشل في إثبات عمالة ترامب للروس، أحيت «أوكرانيا غيت» الآمال بإطلاق إجراءات عزل الرئيس. الرهان على «الفضيحة» ومآلاتها أنتج محاكمة سريعة ستنتهي إلى تبرئة ترامب في مجلس الشيوخ من تهمتَي «سوء استغلال السلطة» و»عرقلة عمل الكونغرس». مرّة ثانية، راهن الديموقراطيون على استثارة الرأي العام ضدّ الرئيس الأميركي، لإضعافه، وتالياً إخراجه من البيت الأبيض. لكنهم فشلوا ثانيةً، قبل أن تسعفهم استجابة الإدارة الفاشلة لاحتواء وباء «كورونا» الذي أصاب مقتلاً في صميم «إنجازات» الرئيس الأميركي: الاقتصاد، معطوفةً على الاحتجاجات التي شهدتها أميركا في الصيف الماضي، على خلفية مقتل جورج فلويد.

بين الهزيمة ورفضها

على إثر هزيمة ترامب في الانتخابات الرئاسية، وصعود الديموقراطيين لترؤّس البيت الأبيض ومعهم السلطتان التشريعية والتنفيذية، بدأت وعوده بالفوضى التي سيسبّبها غيابه تتحقّق. جاءت حادثة اقتحام الـ»كابيتول» لتُفاقم الغضبة الديموقراطية إزاء نكران ترامب نتائج الانتخابات، وتسويقه سردية التزوير الذي شابها. حادثةٌ ارتأى مجلس النواب الديموقراطي الحكيم، المدعوم إعلامياً، أنها تستوجب إجراء محاكمة ثانية، تلغي احتمالات ترشّح ترامب مرّة جديدة في الدورة المقبلة عام 2024. وبالفعل، وجّه المجلس، أول من أمس، للرئيس المنصرف تهمة خطيرة عنوانها «التحريض على التمرّد» ليدخل التاريخ بصفته الرئيس الأميركي الوحيد الذي تعرّض مرّتين لآلية عزل سياسية الطابع لم تستخدم أصلاً، على مرّ تاريخ الولايات المتحدة، إلا مرّتين (جرت تبرئة أندرو جاكسون في 1868، وبيل كلينتون بعده بقرن ونصف قرن، فيما استقال ريتشارد نيكسون قبل إطلاق إجراءات محاكمته). أقرّ 232 نائباً، بينهم عشرة جمهوريين فقط، في مقابل 197، التهمة ضدّ ترامب، وهو ما جلّى بوضوح الشرخ السياسي المتعاظم، على رغم الضجة الكبيرة التي افتعلها الحزب الديموقراطي. لا يزال السؤال يدور حول ما إذا كان بإمكان الجمهوريين التخلّي عن رئيسهم. خيارات هؤلاء محدودة؛ فمِن جهة، يمكن لخطوة من هذا النوع أن تضعف حظوظ «الحزب الكبير» في أيّ انتخابات مقبلة، نظراً إلى شعبية ترامب المتضخّمة، وهم يتحدّثون، من جهة ثانية، عن الآثار التي يحتمل أن تترتّب على تحرّك كهذا، في ظلّ انقسامٍ اجتماعي غير مسبوق. على أيّ حال، سيحدِّد الحزب الجمهوري، مرّة ثانية، مسار إجراءات العزل في ختام المداولات، عندما يقوم أعضاء مجلس الشيوخ المئة بالتصويت. وفي حال إدانة الرئيس بغالبية الثلثين، تجرى عملية تصويت ثانية بالغالبية البسيطة لمنعه من الترشّح مجدداً. لكن الخطاب الجمهوري، بأكثريته، على رغم «الفاجعة»، لم يتبدّل كثيراً. فها هو رئيس «الشيوخ»، ميتش ماكونيل، يؤكّد أنه لا يمكن محاكمة ترامب قبل أيام من انتهاء ولايته. ويستند في ذلك إلى أن الدستور لا يوضح التدابير التي يمكن اتخاذها بعد انتهاء مهمّات المتّهم، فضلاً عن أنه لا يحدِّد جدولاً زمنياً، ما يعني أن بإمكان مجلس النواب التريّث قبل إحالة بيان الاتهام على مجلس الشيوخ، حتى يتسنّى تثبيت الفريق الحاكم الجديد (ينقسم مجلس الشيوخ المقبل بالتساوي بين 50 عضواً ديموقراطياً و50 جمهورياً. وبالتالي يبدو من الصعب تحقيق غالبية الثلثين، وخصوصاً أن عضواً جمهورياً واحداً صوّت مع الديموقراطيين في آلية العزل الأولى). إدانة ترامب أو حتى عزله لن يُغيّر في واقع الأمر شيئاً. فالرئيس الذي أطلّ، قبل يومين، على جمهوره بشريط مصوّر، ليقرّ بوجود تهديدات أمنية محتملة في الأيام المقبلة، رفض مجدّداً الإقرار بالهزيمة في الانتخابات وبنزاهتها وبشرعية الرئيس المنتخَب. وهذه عوامل تشكِّل أساس الإشكال الحالي المرشّح للتصاعد، وواقعة الاقتحام ليست إلّا البداية.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى