نجيب محفوظ.. القاهرة في صورة إنسان
نجيب محفوظ.. القاهرة في صورة إنسان …الأديب المصري الشهير عرف العاصمة بكل أجوائها وحواريها وشوارعها وأزقتها ونواصيها وفتواتِها وعوالمها ومقاهيها وتحولاتها الاجتماعية والسياسية والفكرية والنفسية والثقافية فكانت مادة خام استقى منها معظم أعماله وكتاباته يبتعد عنها قليلا ليرى أوضح، ويقترب قليلا ليضمها بين يديه ويشمَّها كما العاشق والمعشوق.
عرف نجيب محفوظ القاهرة بكل أجوائها وحواريها، وشوارعها وأزقتها ونواصيها، وفتواتِها وعوالمها ومقاهيها، وتحولاتها الاجتماعية والسياسية والفكرية والنفسية والثقافية، فكانت هي المادة الخام التي استقى منها معظم أعماله وكتاباته، يبتعد عنها قليلا ليرى أوضح، ويقترب قليلا ليضمها بين يديه ويشمَّها. يقتربُ أكثر ليدخلَ فيها، كما العاشق والمعشوق.
لقد تقلَّب محفوظ في القاهرة من قمتها إلى أسفلها، ومن أسفلها إلى قمتها، وهذا جعله يعرف ويخابر الطبقات الاجتماعية المختلفة، والنساء بخاصة من جميع الأشكال والألوان.
لذا يُخيل لي دائما أن نجيب محفوظ هو القاهرة في صورة إنسان.
في روايته “القاهرة الجديدة” قدم شخصيات تمثل تيارات الحياة السياسية في حقبة من تاريخ مصر السياسي والاجتماعي في الأربعينيات. وكانت مأساة محجوب عبدالدايم تجسيدا لعدم الانتماء لنظرية ما، حتى لو كانت الفوضوية تحميه من التشويه والفساد.
كان نجيب محفوظ قد تشبَّع بالكتابة عن مصر القديمة في رواياته الأوَل (عبث الأقدار، ورادوبيس، وكفاح طيبة)، وفكَّر أن يكتب عن مصر الجديدة أو القاهرة الجديدة في الأربعينيات، فلم يعد التاريخ القديم قادرًا على إلهامه، رغم أنه أعدَّ أكثرَ من عشرين موضوعا عن مصر القديمة، ولكنه آثر الغوص والانخراط في الواقع والإنصات إلى ذبذباته ودقائقه، بغية الاقتراب الحي والحميم من قضاياه ومشكلاته فانتقل من طيبة إلى القاهرة الجديدة مباشرة، فكانت الرواية الجديدة عن طالب تتبعه محفوظ في مراحل حياته، حتى حصل على وظيفة، وهو محجوب عبدالدايم، صاحب الكلمة الدالة الشهيرة “طُظ”، والذي ودَّ لو يستطيع أن يقذف القاهرة بأحجار الأهرام الهائلة.
عندما كتب محفوظ تلك الرواية، حدث اضطراب في الوزارة التي كان يعمل بها في ذلك الوقت، وهي وزارة الأوقاف، تساءلوا عما يقصد؟ فقد قرأوا الرواية وكأنها حكاياتٌ حقيقية.
وعلى سبيل المثال عندما قرأها بهي الدين بركات باشا، وكان رجلا متأدبا وقارئا (عينته ثورة 23 يوليو بعد ذلك أحد الأوصياء على العرش)، اعتبرها إنذارا لمصائب سوف تحدث في مصر، فقد كان فيها نقدٌ للوزراء وهيئة الحكم، بما لم يجرؤ أحد على التحدث به من قبل، لذلك انزعج ناس كثيرون من الرواية، وهُييء لهم أن هذا ليس أدبًا واقعيا، بل هو أدبٌ حقيقي بأحداث حقيقية. وقد كان أمرا صعبا أن يتقبلوا نقدًا للحكومة من موظف حكومة. وعليه تم نقل محفوظ إلى وظيفة أخرى بالوزارة عقابًا له على “القاهرة الجديدة”.
ويذكر محفوظ أن الرقيب ألغى أحد فصول تلك الرواية عند نشرها، ثم صدرت طبعتها الأولى عام 1948، ولكن بعد الثورة أراد يوسف السباعي نشرها في سلسلة “الكتاب الذهبي”، ولكن رفض نشرها تحت عنوانها القديم، حتى لا يُفهم أن “القاهرة الجديدة” هي قاهرة الضباط، فقام بتغيير العنوان إلى “فضيحة في القاهرة”، وفيما بعد عادت إلى عنوانها الأصلي.
وقد أشار بعض النقاد والمحللين إلى أن إحسان شحاتة بطلة الرواية، إنما هي رمز لمصر في الثلاثينيات، مصر الممزقة بين استغلال الطبقة الأرستقراطية الفاسدة التي يمثلها وكيل الوزراة الجشع المستغل قاسم بك، وبين شبابها الضائع الذي بدأ ينقاد لتيار الليبرالية الفوضوي المنتشر في الطبقة المتوسطة والتي يمثلها محجوب عبدالدايم.
يقول محفوظ لو طُلب مني إعادة كتابة “القاهرة الجديدة” مرة أخرى، فسأغيرها كلها، لأن الاشتراكي كبر وانهدم، والديني كما نراه، والانتهازيون موجودون، وهذه الشخصيات ظهرت في “الثلاثية” وكبرت وتبلورت في التيار الديني والاشتراكي، أما الانتهازي الذي يمثله محجوب عبدالدايم، فقد كان المجتمع ينظر إليه على أنه شيء حقير، كان والده رجلا طيبا يمثل المجتمع في رفضه لهذه الظاهرة. لقد حقق محجوب عبدالدايم نفسه في الخارج، لكن انظر ماذا كان الثمن. والشبيه الآخر به “حميدة” في “زقاق المدق” حققت نفسها وطموحاتها هي الأخرى في الخارج، لكن ما أفدح الثمن! لقد تحقق الاثنان عن طريق الدعارة، والغريب أن تحقيق الذات في الخارج بعد ذلك التاريخ كان يتم بطرق مشابهة.
لقد اختار محفوظ “القاهرة” وليس أي مدينة أخرى، لأنها تمثل كل الطوائف، وتظهر فيها كل التيارات التي تنتشر في القطر المصري كله بعد ذلك. لذا نراه يكتب بعمق عن القاهرة وحاراتها وأزقتها وشوارعها وشخصياتها المتباينة التي عرفها وخبرها، فهو يكتب عن الشيء الذي يعرفه وعاشه وتفاعل معه، لذا لم نره يكتب عن الريف مثلا، أو الصعيد أو النوبة، لأنه لم يعش هناك، ولكنه كتب عن الإسكندرية لأنه كان يقضي فيها عطلته الصيفية كل عام منذ كان عمره تسع سنوات.
نراه يكتب عن القاهرة بعمق وسحر في رواياته: “القاهرة الجديدة”، “خان الخليلي”، “زقاق المدق”، “بداية ونهاية”، “الثلاثية” (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) “اللص والكلاب”، “ثرثرة فوق النيل”، “الكرنك”، “أفراح القبة”، “الباقي من الزمن ساعة”، “يوم قتل الزعيم”، “حديث الصباح والمساء”، “قشتمر”، وغيرها، إلى جانب مجموعاته القصصية الأخرى التي بلغت تسع عشرة مجموعة قصصية، بدءا بالمجموعة “همس الجنون” عام 1938 وانتهاء بـ “أحلام فترة النقاهة” 2004.
وعند تحويل “القاهرة الجديدة” إلى فيلم بعنوان “القاهرة 30” رفض نجيب محفوظ – بعد أن عُين مديرا عاما للرقابة – سيناريو الفيلم المأخوذ عن روايته (والذي كتبه صلاح أبوسيف وعلي الزرقاني ووفية خيري)، وكان من إخراج صديقه صلاح أبوسيف، والسبب أن سيناريو الفيلم رُفض من قِبل الرقيب السابق، فلما صار محفوظ مديرا للرقابة، جاءه صلاح أيوسيف وقال: فُرِجتْ. فقال له محفوظ: لا لم تُفرجْ، لأنني لا أستطيع تغيير قرار الرقيب السابق فأقع في الشبهات. تركه أبوسيف ومضي غاضبا، وطوال مدة اشتغاله بالرقابة منع نجيب محفوظ السماح بالموافقة على “القاهرة 30” كفيلم سينمائي إلى أن ترك الرقابة، فأجازه الرقيب الذي أتى بعده، وعرض الفيلم في آخر أكتوبر عام 1966.
تمثل مقاهي القاهرة مرتكزا كبيرا في حياة نجيب محفوظ وفي أدبه، ومنها على سبيل المثال رواية “قشتمر”. و”قشتمر” – وهو اسم وزير مملوكي – هو ذلك المقهى الصغير في حي العباسية بالقاهرة الذي اكتشفه الأصدقاء الخمسة منذ حداثة سنهم، وكان هذا في العشرينيات من القرن العشرين. وتحديدا في أواخر عام 1923 أو أوائل 1924 وظلوا يلتقون عليه بصفة شبه يومية إلى أن احتفلوا عام 1985 بعيد ميلاد صداقتهم السبعين في المقهى نفسه. كما أننا نرى مقاهي قاهرية أخرى مبثوثة في أعمال نجيب محفوظ مثل الفيشاوي وريش وعلي بابا وعرابي وغيرها، فضلا عن جلسات الصالات بالفنادق الكبرى والكافتيريات والعوامات أو الدهبيات (ثرثرة فوق النيل مثالا)، والكازينوهات المطلة على نهر النيل، مثل كازينو قصر النيل وغيرها.
وكان محفوظ ينوي كتابة رواية عن مقهى ريش قبل “قشتمر” تحمل عنوان “حكماء ريش”، ولكن الشاعر والمخرج المسرحي نجيب سرور فاجأ الوسط الأدبي بكتابة ديوان شعر يحمل العنوان “برتوكولات حكماء ريش” فصرف محفوظ النظر عن روايته تلك. ونلاحظ أن نجيب سرور كتب بعد ذلك كتابا يحمل عنوان “رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ”، كما قام بتحويل رواية “ميرامار” إلى عمل مسرحي وأخرجها بنفسه لفرقة المسرح الحر عام 1968 على مسرح الزمالك.
لقد ولد نجيب محفوظ عبالعزيز إبراهيم الباشا في البيت المطل على ميدان القاضي بحي الجمَّالية بالقاهرة يوم الاثنين 11 ديسمبر/كانون الاول عام 1911، وكانت ولادته متعسرة، فاضطر الوالد إلى استدعاء طبيب الولادة المعروف في ذلك الوقت نجيب محفوظ باشا، ليقوم بعملية التوليد التي تمت بنجاح فجاء الطفل الجديد إلى حياة أسرة الموظف البسيط عبدالعزيز أفندي، الذي سمي طفله اسما مركبا باسم الطبيب الذي قام بإخراجه بصعوبة من رحم الأم فاطمة التي عمَّرت طويلا وكانت أول من تنبأ بموهبة ابنها الصغير فكانت تطلق عليه “أبوالتفانين”، وتشتري له الكتب وتصحبه معها إلى المساجد والكنائس والمتاحف والآثار وشاطئ النيل، فنشأ نجيب محفوظ على حب الحياة وللناس، وعلى حب الزعيم سعد زغلول الذي لم يضاهيه حب زعيم آخر، فقد كان اسم زعيم ثورة 1919 من الأسماء المقدسة في عائلة محفوظ، وكل أعمال نجيب محفوظ الروائية والقصصية وحواراته الصحفية تشي بذلك.
بعد عمر قارب على الخامسة والتسعين، توفي نجيب محفوظ في 30 آب/أغسطس عام 2006 بالحجرة رقم 612 بمستشفى الشرطة بالعجوزة القريبة من مسكنه بالعمارة رقم 172 بشارع النيل في حي العجوزة بالقاهرة، بعد أن خلّد القاهرة في أعماله الخالدة، ولكننا حينما ننظر إلى قاهرتنا اليوم وما صاحبها من تغيير وتطوير وازدحام بشري هائل وامتداد عمراني واسع، نشعر أنه كان لنجيب محفوظ قاهرتُه الخاصة، فلم يعد زقاق المدق على أيام محفوظ هو زقاق المدق الآن، ولم تعد الجمّالية الآن هي الجمّالية التي شهدت خطوات نجيب محفوظ الأولى في الحياة، ولم تعد العباسية التي كانت مقسمة إلى العباسية الشرقية والعباسية الغربية على أيام محفوظ وصباه وكان من ساكني العباسية الغربية (رقم عشرة بشارع رضوان شكري المتفرع من شارع أحمد سعيد)، هي العباسية الموجودة الآن. ونيل القاهرة نفسه الآن لم يعد النيل الذي كان يزوره نجيب محفوظ في صباه، ويتمشَّي على كورنيشه في شبابه، ويعبر فوقه في كهولته. والربيع الذي كان يجدد حياة الشجر في عصر محفوظ لم يعد يجدد حياة البشر، ورغم الثرثرة لم نعد نسمع شيئا.
كان نجيب محفوظ، عندما تقدم به العمر، يفزع أحيانا عندما يرى السيارات في القاهرة كأمواج البحر الجائعة في الأيام العاصفة، يراها تتلاصق مع الأجساد.
ولكن ظل الحسين بكل عبقه الروحي وتأثيره الديني من أهم المؤثرات والروافد الإيمانية، واللجوء الروحي الآمن، في أعمال نجيب محفوظ، وظلت التكية والأناشيد الصوفية والأقوال والفتوحات الفلسفية التي تحلق في سماء القاهرة الإسلامية، تتلألأ في أعماله الأدبية منذ كتاباته الأولى وحتى آخر أعماله التي تركها لنا وهي “أحلام فترة النقاهة”.