نجيب محفوظ وعصر الواقعية 15 عاما على رحيل صاحب ‘زقاق المدق’
اتجه نجيب محفوظ (1911 – 2006) إلى كتابة الرواية الواقعية، في الوقت الذي كانت فيه الكاتبة الإنكليزية فرجينيا وولف تهاجم هذا الأسلوب وتدعو للأسلوب النفسي، أو تيار الوعي.
ويعتقد محفوظ أن الواقعية ليست صورة لما يقع، ولكن صورة لما يحتمل وقوعه، والواقع يتغير في الواقعية، ولها معادلة هي: الواقعية = الواقع + الفن. فالشخص في الحياة ليس حرفيا في الرواية، وكذلك الحادث والمكان والزمان.
وعندما قرأ إبراهيم عبدالقادر المازني رواية “زقاق المدق” طلب مقابلة نجيب محفوظ وقال له: الأدب الذي تكتبه اسمه الواقعية، وهذا له خطورته. في أوروبا تسبب في مشاكل وقضايا، خذ بالك من هذه المسألة، خاصة أننا في مصر قد تعودنا على الرواية الذاتية، يعني لما طه حسين يكتب “الأيام” فهو طه حسين، العقاد يكتب “سارة” فهو بطل سارة، أنا أكتب إبراهيم الكاتب، فأنا إبراهيم الكاتب. توفيق الحكيم يكتب “عودة الروح” فهو يتناول شخصية أولاد عمومته، وأنت حينما كتبت “زقاق المدق” وغصت في الأعماق، سيقولون إنك تكتب سيرتك الذاتية، فخذ بالك، الأدب الواقعي غير الذاتي، ونحن لم نتعود في مصر إلا على أن الرواية هي سيرة كاتبها فاعمل حسابك، إما أن تغير الطريقة، أو أن تأخذ بالك من المحاذير التي يمكن أن تقابلك.
لكن نجيب محفوظ قرر إهمال نصيحة المازني ولم يعمل بها.
وهو يقول عن “الثلاثية”: كان عليّ الجمع بين اللغة الفنية واللغة الواقعية على لسان الشخصيات. مؤكدا أنه كان في صراع مع اللغة، كيف يذلِّل اللغة، كيف يطوعها، كيف يكون الحوار مقبولا مع أنه فصيح؟
لقد كان لدى نجيب محفوظ – قبل ثورة 1952 – موضوعات الروايات الواقعية تكفي لعمره كله، لكن قامت الثورة فأحس أنه في حالة موات فني، فصمت خمس سنوات عن الكتابة حتى عاد برواية “أولاد حارتنا”، ونشرها مسلسلة في جريدة الأهرام عام 1959.
وفي رأي كاتب بيرو ماريو بارغاس يوسا، الذي زار محفوظ في 31 يناير 2000 أن “الثلاثية” تعتبر من الروائع العالمية للمدرسة الواقعية في الرواية.
وعن المرحلة الواقعية يقول نجيب محفوظ لأحمد عباس صالح (مجلة صباح الخير 17 يناير 1956): إنني انتقلت إلى المرحلة الواقعية ابتداء من “القاهرة الجديدة” وأعقبتها بقصة “خان الخليلي”. وقد كتبت هذه الروايات في الفترة ما بين سنتي 1939 – 1943، ولكنها ظلت جميعا في درج مكتبي بدون نشر، لأن الحالة الأدبية كانت في ركود، ولم يكن هناك ناشر يجرؤ على نشر كتاب لمؤلف ناشىء. ولكنني مع ذلك كنت أكتب ولا أدري ما الذي كان يدفعني على الكتابة، على الرغم من فقدان الأمل في النشر، وعندما أنشئت “لجنة النشر للجامعيين” وجدتُ فيها متنفسا، وابتدأت قصصي ترى النور.
وقد أبرزت مجلة “الاثنين” (العدد 128 – 19 يناير 1959) رؤية نجيب محفوظ للواقعية حيث قال: الواقعية مذهب أدبي يصور الحياة تصويرا دقيقا مع إقناع القارئ بأن هذا التصوير الواقعي يعتمد أول ما يعتمد على القانون الاجتماعي أو على شيء من المنطق والمعقولية، والواقعية غير الواقع. فالواقع فيه كل الغرائب، وهو غير خاضع لمنطق أو حتى لنظام أخلاقي، والواقعية عقل ومنطق دون استسلام للخيال الموجود في الأدب الرومانسي.
قد يكون التطور الذي دفعني إلى اتخاذ الواقعية مذهبي الأدبي، وقد تكون عوامل التأخر والفساد في مجتمعنا هي التي استحوذت على اهتمامنا وجعلتنا نصورها في أعمالنا الأدبية
ويوضح محفوظ أنه اختار الواقعية مذهبا أدبيا لأنه التطور أو الخطوة الطبيعية للأدب. فقد سبقنا الأدب الرومانسي ثم تلاه أدب بين الواقعية والرومانسية، ثم كانت الواقعية نفسها. ويقول: قد يكون التطور الذي دفعني إلى اتخاذ الواقعية مذهبي الأدبي، وقد تكون عوامل التأخر والفساد في مجتمعنا هي التي استحوذت على اهتمامنا وجعلتنا نصورها في أعمالنا الأدبية، فالواقع المرير قد شدني إليه، وكان أقوى من خيال الرومانسية، وقد يرجع الاختيار إلى المزاج الشخصي.
لقد عرف نجيب محفوظ الواقعية عند أدباء معاصرين أتقنوا أسلوبها وطوروه مثل غولسورثي والدوس هاكسلي ود. ه. لورانس.
ويقول لفؤاد دوّراة (مجلة الكاتب – يناير 1963) لم يعد باستطاعتي بعد ذلك أن اقرأ ديكنز. وكذلك لم أستطع قراءة بلزاك، بعد أن قرأت فلوبير، وستندال، مع أني أعلم أن بلزاك عبقري، وهو خالق الواقعية كلها، ولكن لم يكن باستطاعتي أن احتمله وهو يصف مشهدا في 80 صفحة مثلا. لقد قرأت مذهبه واتجاهه بعد أن تهذب وتطور عند أناس غيره.
لقد تحول محفوظ إلى الواقعية في “القاهرة الجديدة” بلا مقدمات، وظلّ غارقا فيها حتى أنهى “الثلاثية” في أبريل عام 1952.
ويقول لدوّارة: كانت أمامي سبعة موضوعات لروايات أخرى في نفس الاتجاه الواقعي النقدي، وإذا بثورة 1952 تقوم فتموت معها الموضوعات السبعة من حيث الدافع لكتابتها.
وفي عام 1965 يؤكد نجيب محفوظ لسعاد زهير (مجلة روزاليوسف) أن فنوننا تمر الآن بفترة انتقال وتجربة، وسيكون من شأنها إفساح المجال لتجربة الأشكال الفنية الجديدة، إما عن صدقٍ تجريبي أو حتى عن تقليد، لكن عندما يستقر الأمر بها وتعرف أن رسالتها تتجه إلى الجماهير، ستكون الاشتراكية الواقعية التي تتسم بالنقد والبطولة والوضوح أقرب الأساليب الفنية إلينا.