نحن أجمل الأموات

بسيط ومغفّل من ينكر أو يتجاهل ارتباط الإعلام بمؤشرات الأسواق المالية , فلقد بات واضحا وجليّا أن عملة البلد هي التي تقيّم الخبر وتحدّد حجم خط “المانشيت ” إن كان في “الرئيسية” أو الصفحات الداخلية، يجاور ركن “التسالي ” أو الرياضة أو “المتفرّقات” …أو حتى ضمن ملحق أسبوعي يرافق الجريدة مع قطعة الكيك يوم الراحة الأسبوعية .

هل أصبح المواطن الفرنسي مثلا و بعد أحداث باريس الأخيرة في نظر بورصة هذا الإعلام “المصرفي ” يساوي 400 إنسان سوري..أي سعر صرف اليورو مقابل الليرة اليوم..!! ؟.

نعلم علم اليقين أنّ التقييم السيادي ـ بلغة البنوك والجهات القارضة و المقرضة ــ يتأتّى من معدّل النمو وحجم الاستثمارات وفائض الثروة و احتياطي العملة وسوق العمالة ونسبة المديونيّة وهلمّ جرّا من الجداول الجافة والأرقام الباردة التي لا تعني الفقراء في شيء ولكن …أليس من الظلم والإجحاف أن نقارب بين الميزان التجاري والميزان الأخلاقي والإنساني للأفراد والدول والمجتمعات .

تتباين عبارات الإعلام نزولا وصعودا , ازدراء أو تعاطفا في توصيف جثّة السوري المطوّقة على شواطئ التآمر والنسيان حسب الأسهم والمؤشرات وسوق المضاربات …إن كان قد فارق الحياة أم الحياة هي التي فارقته , إن كان غريقا أم لا يتقن السباحة , إن كان قتيلا أم شهيدا أم ضحيّة , مهجّرا أم مهاجرا أم مندسّا , لاجئا أم هاربا أم متسلّلا , معارضا أم مواليا أم حياديّا , متشدّدا أم معتدلا ,مسلما أم مسيحيا أم علمانيا , …أم هو فعلا “إنسان ” يحب ويكره ويتناسل حقّا؟ , يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ؟.

ما الذي جعل حكّام العالم يتقاطرون على باريس لتقديم واجب العزاء لسيد قصر الاليزيه , ما الذي جعل “بروفيلات ” الكثير منّا تتسابق للارتداء ألوان العلم الفرنسي تنديدا بالعمل الإرهابي على صفحات التواصل الاجتماعي , ما الذي استنهض تلك الرهبة وذاك الخشوع في وضع الزهور وإشعال الشموع لراحة الضحايا , ما الذي يجعل المحارم تستلّ من الجيوب في كل بقاع الأرض كلما سالت دمعة فرنسية أو أمريكية أو ألمانية …بينما يغرق السوريون في دموعهم ولا أحد يعلن الحداد عليهم فيكتفون برثاء أنفسهم وضمير هذا العالم الذي تكلّس وتحوّل إل جرس افتتاح وإغلاق في بورصة الأخلاق.

يستحق الفرنسيون بالتأكيد هذا التضامن الدولي الهائل في مصابهم وكذلك من قبلهم الأمريكيون والألمان و غيرهم ممن سوف يأتي بعدهم , إننا نحزن لحزهم لا لأنهم من صنّاع القرار ومهندسي السياسة الدوليّة ..ولا لأنّ دماءهم يفوح منها عطر باريسي ساحر وتسيل على الأرض هدرا كنبيذ فاخر ومسفوح …بل لأنهم ـ ببساطة شديدة ـ إخوتنا في الإنسانية وشركاءنا في حياكة ثوب الحضارة …الثوب الذي سحبوه إلى جهتهم في مخدع المصالح المشتركة وتركونا لبردنا , للعراء و..للأسف الشديد .

يقول لسان حال الشعوب الطيّبة و الباحثة عن الكرامة خارج أسواق المال ومنطق الربح والخسارة ” اللهم لا شماتة ” ,إنّ المظلومين من أهل الحق وأصحاب القضية العادلة لا يتشفّون ـ كيف يتشفّون وهم الذين اصطلوا على نار الإرهاب في أبشع أشكاله المنظّمة والمشرعنة أمام صمت الكبار والمتنفّذين , لكنّهم يذكّرون و يحذّرون من دق جرس افتتاح البورصة الدموية الأشد فتكا ودمارا في تاريخ البشرية ..

لم يخبرنا إعلام “التداول الورقي ” من قبل الحادثة الإرهابية عن عربدة الكثير من السياسات الغربية وفجورها الذي أحيط بهالة من التكتّم واكتفى بتصوير وتسويق ما يحدث فوق الطاولة ثم قام بأكثر من دوره في تغطية الجريمة الإرهاببّة واستخدامها للتشويش على جرائم تستحق الصدارة مع ما يعادلها من كميّة الحبر والصوت والصورة .

إنه الصمت الاستعلاء التآمري الذي يطل برأسه دوما عند موت الفقير وعربدة الغني …وقس عل ذلك ..فنفس الإعلام هو الذي يمل الدنيا صراخا وجعيرا عند محنة الغني و هفوة الفقير .

نحن يا سادة المال وبارونات الإعلام لا نطالب إلاّ بحقنا في “نعوة ” تعلّق على نفس الجدار وجنازة تليق بنا كأجمل غرقى هذا العالم .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى