نخب من تبقى من الرجال…

أتجوّل مع صديقي السوري في ميناء الصيّادين الذين يعرضون ما غنمته شباكهم من الأسماك قبل الخلود إلى كؤوسهم الصباحية في حانات المدينة المكتظّة بالثرثرة والحماسة والدخان.

كنّا نتفحّص هذه الكائنات البحرية بمختلف الألوان والأحجام والهيئات وهي ممدّدة في صناديقها بمنتهى الصرامة والانضباط، تنظر إلى الزبائن المتردّدين والمتحسّسين لجيوبهم وتراقبهم بعيون جاحظة، لا تخلو من بعض الوقاحة والتحدّي وكأنها تهدّد بالعودة إلى الماء .
أخذ منّا البرد مأخذه وقد علت أصوات الباعة ومضاربات الوسطاء والسماسرة فتختلط الأرقام بالأسماء إلى أن تسلّل إلى مسمعنا ـ وبدفء لافت ـ كلمتا “صوبيا” و”بوري” ..!

ابتسم صديقي و فهم على الفور أنّ المدافئ لا تؤكل في بلادنا، بل هي تسمية لنوعين من الأسماك في تونس ثمّ عقّب بقوله “غريبة هي المفارقات في التسميات بيننا وبينكم فما وجه الشبه يا ترى؟!”.

ـ لكنّ “الصوبيا” تبقى اختراعاً سورياً بامتياز ..خصوصاً إذا ما أضيف فوقها شيئ من الكستناء ـ أي القسطل عندنا ـ وحولها أحاديث وشجون وابتسامات . قالت العجم “”النار”ـ أي الرمّان ـ فاكهة الجنّة ” وقالت العرب ” النار فاكهة الشتاء”، ولن أنسى هذه العبارة المكتوبة بخطّ نافر على أوّل “صوبيا” طلبت اللجوء إليها في دمشق منذ ما يقارب الثلاثين عاماً … ومازال دفؤها يسافر في عروقي .

أطلق صديقي زفرة لمست سخونتها وتحسست حرقتها في برد هذا الصباح. داهمتنا غصّة تشبه أوحال الطين تحت أقدام أطفال المهجّرين ، وأصابنا وجع يسري كالبرد في أوصال الطوابير الواقفة أمام الأفران ومحطّات الوقود……..لكنها واقفة ولم تذوِ. إنها مثل مئذنة الأموي وأجراس الكنيسة المريميّة .هكذا تآمر المتآمرون ومعهم الجهلة على هذا الشعب الذي اخترع الأبجديّة، ورفعها رسالة سلام ولم يجترح منها إلاّ عبارات الشعر و الحبّ الذي يصنع المعجزات ويجعل إنسان هذا الشرق يمشي فوق جراحه نحو الخلاص وهو مكلّل بالشوك والغار، مثل بشارة طفل المغارة، تحضنه أمه البتول في ليلة باردة…. لكنّها واعدة.

قال صديقي: أعجب لمن تنكّر لـ”الصوببيا” السورية التي أهدته الدفء في الصقيع العربي، أكل الكستناء ورمى الدار وأهلها بالقشور. أعجب لمن تآمر مع البرد القارص والليل الدامس والقصف الغادر والتكفير الحاقد على حدّ سواء .

… وثمّة بالتأكيد من أخلص لطيب المعشر وجاش في دمائه عطر الياسمين وأطلقت خيول الشهامة صهيلها في شرايينه.

لست أدري ما أوجه الشبه بين بعض أسماك تونس ومدافئ الشام …لعلّه دفئ الحنين ومتعة التحلّق حولها ….

ومهما يكن من أمر فإننا قد شربنا مع البحّارة نخب من تبقّى من الرجال الصناديد في هذا اليوم الملبّد بالمشاعر الغاضبة وتناولنا ما تيسّر من “الصوبيا” و”البوري“، هذه الأسماك التي خيّل لي صباحاً أنها كانت تهدّد بالعودة إلى الماء، لكنها ـ وبالتأكيد ـ لن تفترس بعد الآن جثث الغرقى من بني جلدتنا وعمومتنا في عمق البحر الذي صار يقيم أبشع وليمة شيطانية في التاريخ الحديث، وليمة تقيمها مراكب الهجرة المتهالكة … بعد أن كانت تمخر عبابه أرقى رسائل الثقافة والحضارة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى