«نسب» … روعة الغناء تواجه سطوة السلطة
من يطالع رواية الكاتبة المصرية عزة كامل «نسب» (دار بتانة) والتي أصدرتها بعد ثلاث مجموعات قصصية لافتة، يجد نفسه مطارداً بسؤال عما دفعها إلى خوض هذه التجربة، التي تحول فيها التاريخ إلى مادة فنية، لكن حضوره كان طاغياً على مقدار المصادر التي عادت إليها، واقتبست منها مقتطفات نثرتها في ثنايا النص لتصنع سياقه، أو تجري بها الحوار على ألسنة أبطال الرواية وشخصياتها العديدة، أو توظفها في مشاكسة أحداث الحاضر ووقائعه، مأسورة في كل هذا بطريقة الحكي التي انتهجتها الحوليات التاريخية الأساسية، بلغتها العميقة، التي تقادم عليها الزمن، فصار لها سحر وبيان. يبين عنوان الرواية أن بطلتها امرأة تسمى «نسب»، وزمانها هو أيام حكم الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، التي امتدت أكثر من ستين عاماً، وشخوصها يتوزعون على الأسرة الحاكمة، وموظفي البلاد، وأعضاء الإدارة على مختلف تخصصاتهم، والحرس وقادة الجند وأفرادهم، والخدم وأهل الحرف على تعددها، حيث اللحامين والحمالين والحمارين والقزازين والشماعين والدجاجين والصيادين والزجاجين وفتيات الهوى… إلخ، إلى جانب المجاذيب والدراويش والمجانين والمخمورين السكارى والعيارين والجعيدية. تحفل الرواية وتعتني برسم ملامح زمنها البعيد، حيث رهبة الحكم وبطشه، ومؤامرات القصر وفخاخه، وغطرسة المحتسبين وجامعي الجباية، وحيل المهمشين والفقراء من أجل الاستمرار على قيد الحياة، ووقائع الحرب والحب، وألوان من التكالب على الدنيا، ومكائد في سبيل تحصيل الجاه، أو حيازة الثروة، عل حساب الذين تدهسهم أقدام الساعين بإصرار إلى امتلاك كل أصناف القوة المادية والمعنوية. ولغة الرواية هي بنت زمانها بامتياز حيث تتجلى في مفردات الأسماء والأشياء، وفي الصور والمواقف والعلائق المتشابكة بين الأفراد سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وحتى في تسمية المؤسسات والهيئات الأهلية والسلطوية. وتطَّلب هذا بالقطع مراجعة حريصة وأمينة من الكاتبة لما تركه المؤرخون عن هذه الحقبة الاستثنائية في تاريخ مصر، لا سيما ما يرتبط بـ «الشدة المستنصرية»، حين غاض النيل، فانتشرت المجاعات والأوبئة والسلب والنهب، وظهرت أقصى وأقسى صور الانحطاط السياسي والفكري والاجتماعي، وصار التدهور الاقتصادي أسرع من قدرة الناس على المقاومة.
ويبدو أن هذا السياق الحافل بالأحداث القاتمة والمضنية قد ألقى بظلال كثيفة وثقيلة على الحكاية الأصلية التي تدور حول «نسب»، المرأة الحسناء التي كانت تعمل مغنية للخليفة المستنصر، ووقعت في غرام شاب قبطي اسمه «حنا»، مفضلة إياه عن كل الرجال ذوي النفوذ والمال الذين كانوا يهفون إليها. لكن الأحكام الدينية والتقاليد وتوازنات القوى داخل المجتمع حالت دون زواجهما، وفرقت كل هذه الأسباب بينهما، فتزوج هو امرأة من بني دينه، وأنجب بنتاً أسماها «طرب» وهو الاسم الذي كانت «نسب» تطلب منه أن يناديها به. وظلت الأخيرة مخلصة لهذا الحب، وللغناء، حتى الرمق الأخير. هذه الحكاية، المتكررة في التاريخ الاجتماعي المصري، وجدت نفسها مطاردة أمام مشاهد العراك والصراخ والتنافس والتآمر والصراع على السلطة، وجرفتها تصرفات الجبارين من قادة الجند والوزراء وكبار التجار والقضاة والوعاظ، الذين كانوا مستغرقين في أداء دورهم في نشر التّشيُّع، والانتصار لأيديولوجية الدولة في ذلك الوقت، وكذلك صانعو الفلكلور الموزع على الأفراح والمباهج والاحتقالات الدينية والاجتماعية وحفلات التنصيب وذكراه، وعلى الأتراح من مآتم وطقوس في يوم «عاشوراء» ووقائع قتل مروعة لمن يأمر الخليفة الفاطمي بالتخلص منهم بقطع رؤوسهم أو دفنهم أحياء، ومعارك حربية بين الفاطميين والروم، أو ضغوط على الجيران في بلاد النوبة والسودان والحبشة واليمن، وكذلك ألوان الاضطهاد والتمييز ضد المسيحيين، الذين كانوا يجبرون على ربط أوساطهم بزنانير، أو تعليق الصلبان الحديدية الثقيلة في أعناقهم، فضلاً عن اعتداء العوام عليهم في الشوارع والحواري والأسواق والحوانيت والحقول والخمارات وبيوت الهوى وغيرها. وكل هذا أثر في بناء الرواية حيث توزعت على شخصيات ومواقف وأحداث، زاحمت الحكاية الأساسية، وضيَّقت عليها الخناق إلى حد كبير، لا سيما أن هذه الشخصيات حقيقية، أسماؤها محفورة في تاريخ هذه الحقبة، وحول أدوارهم البارزة كتب المؤرخون وأعدت أطروحات علمية في زماننا عما فعلوه وتركوه من بصمات. وعلى رغم أن الذكور هم المتحكمون في صناعة الأحداث، بحكم التركيبة الاجتماعية والتقاليد التي كانت سائدة في هذا الزمن، فإن كاتبة معروفة بانحيازها إلى النسوية كأيديولوجيا ودفاعها عن حقوق المرأة عملياً، لم تعدم وسيلة كي تنتصر للمرأة، فتجعل منها محور الأحداث، أو المتحكمة في جرياناها، سواء من خلال «نسب» أو «رصد» أم الخليفة المستنصر، أو كبيرة خادمات القصر، واللاتي ظهرن مميزات بين نساء أخريات صورتهن الرواية مثل الجواري والغواني والدلالات وصغار الخادمات والزوجات الحبيسات في البيوت. فالأولى كان بوسعها أن تتمرد على التقاليد السائدة، ليس بقصة غرامها فحسب، لكن بكثير من تصرفاتها، وقدرتها على توظيف جمالها الأخاذ وصوتها العذب في حيازة المكانة. والثانية كانت هي التي تحكم مباشرة حين تولى ابنها السلطة وهو طفل صغير، فلما كبر، استمرت تحكم من خلف الستار، وكان جميع من في البلاط يعرفون سطوتها، فيتمنون رضاها وتجتنبون سخطها.
أما الثالثة فقد استخدمت مكانها في إفساح المجال لبني عرقها من الخدم كي يملأوا القصر، ويشاركوا، ولو من بعيد، في صناعة أحداثه المتوالية، ومن ثم يكون لهم في هذه الرواية نصيب لا يمكن نكرانه. وتصلح هذه الرواية لتأويلات يتم سحبها على زماننا، وهذه إحدى وظائف السرد الأدبي التاريخي، وهي مسألة ربما وعتها الكاتبة وهي تلتقط حكاية من الزمن الفاطمي، وتنفخ فيها من الفن وقراءة الحوليات، لتصنع نصها هذا. ففي أيامنا يستدعي كثير من المصريين «الشدة المستنصرية» شاهدةً على الخراب الذي يحل بمصر إن غاض النيل، كلما أتوا على ذكر الآثار التي يمكن أن تخلقها إقامة إثيوبيا «سد النهضة». وتُستدعى الحقبة الفاطمية في سياق السجال المذهبي بين السنة والشيعة، وكذلك كمثال على «الدولة الدينية»، حيث كان الخليفة مقدساً يقبل القوم قدميه إن دخلوا عليه، ويقبل عموم الناس الأرض التي يدوس عليها بعد أن يمضي موكبه. كما تستدعي هذه الفترة كمثال لسطوة العسكر، وهو ما تعبر عنه «نسب»، حين تصف نفسها بأنها مجرد عبدة لهم، أو جوال يلقون فيه قمامتهم.
وفي الرواية أيضاً ما يمس أولئك الذين يرفعون مبدأ «المواطنة» حتى يتمكن مسيحيو مصر من الحصول على حقوقهم كاملة، بعد التخلص من كل رواسب القرون الوسطى في التفكير والتدبير. ويمكن اعتبار ما سبق من قبيل «التأويل المفرط»، فالكاتبة في النهاية أبدعت رواية تاريخية، ولأن دورات التاريخ تتشابه في الأسباب والذرائع والعلائق، حتى لو اختلفت التفاصيل، فإننا قد نقول إن الرواية تحمل إسقاطاً، لكن بوسعنا أيضاً ألا نذهب في هذا الاتجاه ونتعامل معها على أنها مسار لرواية يمثل التاريخ بطلها الحقيقي.
صحيفة الحياة اللندنية