“نظرة أخرى” .. الروائي والمخيلة والسرد
تعيدنا د. لنا عبدالرحمن عبر فصول كتابها “نظرة أخرى .. الروائي والمخيلة والسرد” إلى عصر كانت الجهود النقدية تتباهى بعرض أروع معطياتها حين رادت الحركة رموز ما تزال جهودهم حتى اليوم – وبعد أن مر أكثر من نصف قرن – تحظى باحترام فشلت أجيال تالية في اقتناص شيء منه.
وما أعنيه تلك الفترة التي شهدت صلافة العقاد وهو يحيل “الناس في بلادي” الى لجنة النثر للاختصاص ممثلا ذروة التشدد، مثلما شهدت تنوعا غير عادي في مدارس النقد وتياراته ومناهجه يقوم على كل منها حارس ساهر من أمين الخولي إلى طه حسين وسبره للتراث العربي إلى مندور ورشاد رشدي ومعاركهما حول الفن للفن أو الفن للمجتمع إلى غنيمي هلال وهوسه بالنقد المقارن إلى لويس عوض واحتذاء النموذج الأوروبي ويحيى حقي وتكريسه لمعطيات الإبداع الجديدة خاصة ما يخرجه الشباب
وشكري عياد وعبد القادرالقط والأهواني والانحياز إلى القواعد والأصول التي استقرت في الجهود النقدية لنقاد الغرب وغيرهم، وحتى من بين فلاسفة ذلك العصر من اشتعل بالنقد ولو في علاقته بفلسفة الجمال من أمثال يوسف مراد وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا مؤخرا وأميرة حلمي مطر بجهد متواضع ومصطفى سويف بتفسير الظاهرة الإبداعية وردها الى اللاشعور الفردي مثل فرويد أو اللاشعور الجمعي مثل يونج ضاربا المثل على مدى ما وصلت إليه الجهود النقدية التي لم تكتف بالنماذج الإبداعية في شكلها المكتمل بل راحت تبحث في المسودات والكلمات المحذوفة أو المستبدلة بأخرى للوقوف على الأسس النفسية للإبداع.
كان الأمر يشبه خلية للنقد كخلايا النحل اجتمع ساكنوها وقسموا العمل فيما بينهم واجتهد كل في تجويد واجبه مع أن معظم هؤلاء لم تربط أحدهم بالآخر علاقة انسانية أو فكرية.
من هؤلاء تعرف الناس أيضا – من خلال تبني الرؤى والقناعات – معظم نقاد الغرب أمثال ادوارد تين والفريد ايفور ريتشاردز وت . س . اليوت وكولنجوود وأوكنر وسيسل، بل وبشر بعضهم بقدوم رولان بارت وسوسيير قبل أن تعلن عن وجودها مدارس كالبنيوية أو الألسنية، أي أن المسافات بين معطيات الحركة النقدية في الغرب وبينها على أرضنا كانت بالغة القصر الى هذا الحد.
اختلفت توجهات كل من هؤلاء الرموز الكبيرة ومشاربهم لكنهم اشتركوا جميعا في صفات الجدية والبذل والإخلاص والدأب، فأعطوا لزمنهم توقيعا مميزا على صفحات التاريخ عودا الى الدكتورة لنا عبدالرحمن وفصول كتابها النقدية – الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة – وإلى زعمي أن هذا الكتاب يعيد إلينا زمنا انتهى بانتهاء رموزه، أراني مضطرا إلى استطراد آخر في محاولة لاستخلاص ما استندت إليه في هذا الزعم بتأكيد اليقين.
نشأ النقد في أعقاب الإبداع واحتفظ لنفسه وعلى رغم منه بهذا الموقع من التبعية، بل ان الدراسات النقدية النظرية التي حاولت أن تبشر بشكل جديد يمكن أن تتحول إليه ذائقة التلقي (كمقدمة غنائيات وردزورث وكوليريدج) كان ذلك استقراءً لمعطيات نتاج سابق، وهذه وضعية فرضت على الناقد بعض المواقف التي أضرت بمعظم الجهود النقدية بل والإبداعية أحيانا، أولها أن الناقد وجد أن عليه أن يتسلح ببعض القواعد والشروط المستمدة من النظريات ومن التجارب السابقة قبل أن يقترب من العمل الابداعي الذي هو بصدده، وراح يبحث إلى أي مدى خرج الكاتب عن تلك القواعد ليوجه إليه سهام اللوم وطبيعي أن مثل هذا التناول بتصورات مسبقة قد أفرغها هذا السلوك من أي قيمة موضوعية حتى وان اشتملت على شيء إيجابي.
كأننا من جديد أمام ما لاحظناه في تراثنا العربي النقدي القديم من اختلاف النقيض للنقيض بين منهجين متمايزين، أحدهما لابن المعتز الذي قرأ الشعر العربي واستخلص منه أحكامه كما فعل أرسطو من قبل في تناوله للشعر اليوناني (التراجيديا خاصة)، والآخر لقدامة بن جعفر الذي بسط أمامه أحكام أرسطو عن الشعر اليوناني وراح يفتش عن مصداقيتها في الشعر العربي أي أن الأول أخذ المنهج واحتذاه، والثاني أخذ الأحكام واعتسف فرضها فهرا فعد هذا الرجل (قدامة بن جعفر) السبب الأساسي في جمود البلاغة العربية.
وللأسف الشديد سارت الحركة النقدية في معظم عصورها على دروب قدامة بن جعفر فأصيب الإبداع بخيبة الرجاء هنا تحديدا الأهمية البالغة لهذه الدراسات النقدية التي ضمها كتاب “نظرة أخرى” للدكتورة لنا عبدالرحمن والتي تبرز عبر ملاحظتين أساسيتين :
1 – النقد حبا: بمعنى أنها تبدأ أولا بنسج علاقة حب بينها وبين العمل الذي ستتناوله، وتزكي هذه العلاقة عبر تتبعها لخطوات العمل وشخوصه خطوة بعد أخرى الى أن يستوي، إنها كمن يتلقى طفلا يولد على يديها فتتعهده بالرعاية إلى أن يستقل بوجوده. هذه هي قراءتها الأولى للعمل، وبهذا الحب حتى وان كان لا يرضي طموحها.
وفي قراءتها الثانية تبدأ في تدوين مذاكراتها عن الوليد الذي تعهدته بالرعاية، تكتب عن مزاجه الحرون أحيانا أو عن وداعته وانصياعه، تزور كل الأماكن التي زارها أو أقام بها وتطيل الوقوف عندها مستعيدة أدق الملاحظات التي دارت بخلده، ترافق البطل وتعد أنفاسه وتلوِّن له أحلامه التعيسة أو الجموحة، وتشاطره الخوف والفرق مثلما تقاسمه الفرح تصادق كل من صادقهم وتدخل سرائرهم مثلما تدخل بيوتهم تمشي بنفس دروبه دون أن تمنعه أو ترشده، بل هي حتى لا تعلق عليها مدحا أو قدحا، كأنما هي ممسكة بقلم ترسم للشخصيات كل مسالكهم، تتعقد بين يديها الخطوط وتتشابك مع تعقد الأحداث في العمل فتصبر عليها الى أن تعود إلى الاستقامة مع نهاية العمل تتنفس استشعارا للراحة والظفر وتطوي الكتاب والكتابة مستقلة بنشوتها وانتشائها.
هي هنا لم تكتب دراسة نقدية فحسب بل نحّتْ الكاتب جانبا وأعادت كتابة العمل تماما كما كتبه صاحبه، وهي هنا لم تمارس فعالية نقدية محضة وانما قدمت عملا إبداعيا إضافة للضبط النقدي في تناولها النقدي الواحد، وأكاد أزعم أن قراءة دراسة نقدية للدكتورة لنا عن عمل من الأعمال يكاد يغني عن قراءة العمل الذي تناولته بسبب كل هذا الإخلاص للعمل.
2 – الاثنانية: الملاحظة الثانية في دراسات لنا عبدالرحمن تتمثل في التفاتها الذكي إلى مزاوجة بين الرواية والتاريخ أو بين الرواية والشعر أو حتى بين الواقع الفني في الرواية والواقع الاجتماعي في الحياة أو في علاقتها بالمكان، مع رعاية كاملة لكل طرف من طرفي الثنائية.
بمبضع طبيب ماهر تفصل الناقدة بين اختلاط الثنائيات لتطلعنا عليها ثم تردها إلى سياقها الفني وتمضي فمثلا في تناولها لرواية محمد المنسي قنديل “قمر على سمرقند” تفصل بين ما هو تخيلي في الرواية وما هو تاريخي، رغم الامتزاج الشديد بل هي تفصل في “التاريخي” بين ما حدث تاريخيا وبين ما هو أسطوري أضافته مخيلة شعبية إلى التاريخ.
وفي “أنبؤني بالرؤيا” لعبدالفتاح كيليطو تفصل بين أحداث رشحها العالم الفني للرواية وبين أحداث أخرى زينها له وسواس النقد، وبرغم اختلاط الذاكرة والتاريخ في مواجهة الحلم في رواية “بيت الديب” فالناقدة كانت شديدة الانتباه إلى التفريق بين ما هو تاريخي لا سبيل إلى تحريفه وبين ما أضفته ذاكرة إلى ذلك التاريخ من صور كانت يومها مجرد أحلام تحققت أو تبددت، وفي مقابل هذا كله (التاريخ والذاكرة) تشارك عزت القمحاوي في نسج أحلام بيت الديب، المودعة في ضمير الممكن أو المحال أحيانا، أما أمجد ناصر فربما هو الذي منحها سهولة الممايزة بين السرد الروائي وبين الوهم الشعري الجميل.
سيلاحظ قارئ هذه الدراسات أن الناقدة لم تصدر حكما قاطعا بالمدح أو الذم، لعمل من الأعمال هذا أروع وأهم ما اختارته لنفسها، أن تقف على أرض تتقاسمها ثنائية أيضا طرف فيها النقد الذي لا تشكك في مصداقيته تبنيها لأفكار مسبقة، والطرف الثاني فيها هو “الإبداع” ليس لأنها لم تتحرر من كونها قاصة وروائية مبدعة، وإنما بعرضها السخي أن تتحمل عن الروائي دوره وواجباته من خلال تبني قناعاته وأفكاره ورؤاه وإعادة الكتابة عنه.
أكاد أجزم أن هذا الجهد للناقدة يشكل منهجا نقديا مهما حين يتكرر منها أو يحتذى من غيرها ستولد من رحمه حساسية نقدية جديدة قادرة على إضاءة العمل الفني، تلك المهمة التي غابت عن النقد طويلا.
ميدل إيست أون لاين