نفي العزلة في رواية ‘ما تبقي من البوح’
.الأعمال الأدبية التي تدور حول الإنسان المصري في الأماكن المنعزلة البعيدة عن الوادي تثري الأدب المصري والعربي بوجه عام، وتنفي العزلة عن تلك البيئات عندما يزيد وعينا بالإنسان النوبي كما في أعمال محمد خليل قاسم وحجاج أدول ويحيي مختار وغيرهم، وبإنسان أسوان كما في أعمال عبد الوهاب الاسواني وأحمد أبو خنيجر وغيرهم وها هي رواية “ما تبقي من البوح” الصادرة عن دار نشر ميتابوك 2024م لـحسن غريب تأتينا من شمال سيناء نافية عن إنسانها غربته، وعن بيئتها عزلتها، ومضيفة لوعينا الإنساني مزيداً من الإحساس بالجمال والبراءة .
رواية ‘ما تبقي من البوح’
تدور أغلب حوادث الرواية في قرية الضهيرية مركز الشيخ زويد. فنجد أن القرية لا تختلف عن قري الوادي في هذا الوقت من حيث استغلال الباشا ( الإقطاعي ) هو الحقيقة الملك الكبير. فلم تعرف مصر الإقطاع بالمعني الأوربي. وهو ملكية الإقطاعي للأرض ومن عليها ونجد أن هذا الباشا يستغل أهل القرية ويستبيح نسائهم .
وبالطبع يقاومه أهل القرية. فينجحون نجاحاً باهتاً، قبالة من تسنده الشرطة والسلطة والزمن. فيالرواية، يكاد يكون إسطورياً. لولا إشارة عن الصول “سمعان” أنه يرتدي “بالطو” هدية جمال عبد الناصر، فنعلم إننا نعيش في عهد، غير ببعيد عنه وإشارة أخري، قرب نهاية الرواية تتحدث عن الإصلاح الزراعي الذي حد من الملكية في القرية . وبالتالي بدأ الناس بعد ان تحرروا من ذل العيش عن المالك الكبير، بنزعون للتحرر المعيشي والاجتماعي .
الجنس في رواية ‘ما تبقي من البوح’
والجنس في رواية ‘ما تبقي من البوح’ موظف بحيث يخدم مضمونها، براءة الإنسان السيناوي، ومدي شعوره بالقهر وكذا معمقاً للدلالة الجمالية فالكاتب يستخدم اللهجة السيناوي التي تسمي عضو الذكورة “لإحليل” ولاحظ اشتقاق اللفظ من الحلال أي أن الجنس حلال للمرأة أو أنه الشئ الطبيعي، لذلك لا نستهجن أو نندهش من سؤال سلمي عن ماهية الجنس ورد الخالة بكلمات صريحة نستشف منها أن الأمر عادي.
ونستشف مدي براءة “رابحة” التي لا تؤهلها البيئة أو الثقافة أن تعرف شيئاً عن هذا الأمر ويجعلنا هذا بين مدي بشاعة أن يغتصبها الباشا فيما بعد أي يغتال البراءة ونعلم مدي المأساة أن تدفع ثمن براءتها فيقتلها أبوها وهو يعلم إنها بريئة. بل لقد ساهم بتواطؤ خفي بتركه لها تعمل عند الباشا وهو يعلم عنه ما يعلم من سوء في السلوك والسمعة حيال الفتيات والنساء وهو ما لم نكن نحبه للأب، فقد كان عليه أن يقاوم قليلاً أو يؤنب نفسه أو يلومها قبل أن يدفع بابنته بسهولة لتعمل عند الباشا لقاء مئة جنيه في الشهر وهو مبلغ كبير في هذا الوقت كان حرياً به أن يجعله يتساءل لماذا يدفع الباشا مبلغاً كهذا وهو لم يعرف عنه الرفق بالفقراء إن لم يكن من أجل غرض في نفسه .
ويستمر الجنس محركاً للأحداث في هذه الرواية، سواء عن طريق العلاقات المحرمة أو العلاقات المشروعة كالحب والزواج وليست مصادفة أن يستخدم الكاتب لفظ “الإفرنج” لعضو الأنوثة فليس اللفظ تحريفاً لكلمة “الفرج” الفصحي بمعني الفتحة او الشق بقدر ما هو للدلالة علي الفرج أي التفريج بعد أزمة أو شدة أو ليس الجنس في بيئة مغلقة لا تري فيها النساء الرجال بشكل طبيعي أو يتلاقون بشكل عادي سوي أزمة تبحث عن الفرج سواء في العلاقات المشروعة أو غيرها .
بدء عهد جديد انتهى فيه الخوف من أبناء الوادي وعدم انغلاق القبائل على نفسها.
فها هي الخالة “سعدية” تفك أزمة مصطفي الموظف الوافد من الوادي للعمل في سيناء، وفي الوقت نفسه تساعده في الزواج من “معزوزة”. لاحظ الاسم من العزة وما تومئ إليه نهاية الرواية من زواج مصطفي ابن الوادي من العزة بنت سيناء ونفي عزلتها . ومن جهة أخري، إيذاناً أو بدء عهد جديد انتهي فيه الخوف من أبناء الوادي. وعدم انغلاق القبائل علي نفسها وزوال الحذر من الوافدين إلي الوداي سواء بسبب أفعال بعضهم الفاضحة كسرقة أحدهم لمصاغ عروسه والهرب. أم للتقاليد البالية لانغلاق القبيلة علي نفسها وعدم المصاهرة من خارجها أيضا. وما يعنيه هذا من الدوران في حلقة مفرغة وعدم إضافة دماء جديدة وعادات جديدة وبالتالي خلق إنسان جديد أكثر ذكاء وأكثر وعياً، والأهم من ذلك، ميلاد جديد لسيناء، ولابن سيناء ينهي عزلتها ويجعل احتلالها من قبل أي عدو خارجي كالصهاينة مثلاً غير قابل للتكرار .
ويستمر الروائي حسن غريب وبصورة رائعة العزف علي وتر الجنس .فها هو “حسان” ابن الشيخ “جمعة” وريث الباشا بعد أن كان يعمل عنده دلالة علي المستغلين الجدد بعد أن قلمت بعض الشئ أظافر الملاك الكبار. وهو سليل لصوص وأوباش لكنه أصبح ” رئيس القرية الجديد” ليواصل ما كان يفعله سلفه من اضطهاد وقهر طبقي، وإن يكن تحت مسميات جديدة “رئيس القرية” وها هو ابنه رسمياً وفعلياً هو ابن الباشا، لاغتصابه لأمه قبل الزواج من الشيخ “جمعة” أي أنه استمرار جيني لما كان يحمله الباشا من رغبة في التسلط والاغتصاب .
الحب في رواية ‘ما تبقي من البوح’
ولكن الأيام والتطور يفعلان فعلهما. وها هو الحب يخفف من غلواء “حسان” يبعده عن التجاوز في حق الناس ويحصر همه في التعلق بـ “هيام” النورية أو الغجرية. ويهرب معها ليحقق ذاته في حبها بعد أن رفض أبوه الزواج منها متمسكاً بما يليق، وما لا يليق، وهو اللص والقواد السابق .
لكن النورية وقد هربت من “حسان” والتقت ببني جلدتها في مكان آخر ناحية بلبيس تطمع في مال “حسان” . وتحن إلي بني جلدتها إشارة إلي أن التطور لم يعمل عمله معها. كما ومع قومها، المستسلبين دوماً وإشارة إلي أنه لابد من القضاء علي سليل الباشا “حسان” ربيب الشيخ “جمعة” أيضاً. فيقتل “حسان ” . لكن “هيام” لا تنجو بفعلتها فيلاحقها الشيخ “جمعة” حتي يقضي عليها وعلي من عاونها . أي يفتك الشر ببعضه بعضاً. ولابد من تطهير البيئة حتي ينمو النبت الجديد حب معزوزة التي بدا أنها تتخلص من ميراث أبيها “الشيخ جمعة”. فهي لا ذنب لها فيما اقترفه. فهي المولودة في سيناء بنت البيئة الجديدة والتي تزداد حدة كل يوم بعد تحريرها من ربقة المالك الكبير. كما وبعد تحريرها من دنس الاحتلال الإسرائيلي وقدوم الشباب من واد النيل للعمل بها تقنيات .
جو وشخصيات الرواية
ولقد وفق الكاتب “في تقديم جو روايته وتقديم شخصياته بحيواتهم البسيطة. وأمالهم المتعلقة في الانعتاق من قهر الحاجة والتحقق في الحب تزيد قليلاً. عندما جنح “حسان ” و”هيام” إلي السويس أو معاشرة “هيام” لولد سويسي من مدمني المخدرات.
فلم يقدم هذا جديداً لجو الرواية يدفع أحداثها. وكذا لم يعمق أو يقودنا إلي منحي في شخصيتي “حسان وهيام”. لم تكن نعرفه من قبل كما قدم سائق الباشا ابنته ” زينة ” بسهولة إلي الباشا. وكأنه لا يعرف ماذا يحل بها وكان أحري به أن، يصطنع الحيلة من أجل تقديمها إليه.
كما لجأ الكتب إلي القص المباشر المنبئ لصفات الشخصيات وأطفالها. وكان بإمكانه أن يلجأ للمواربة في الدفع بالصفات والاستطراد الناجم من تدافع الأحداث . كما وكان في إمكانه أن يحد من المبالغة في تصوير فظاظة أبناء الوادي. فها هي أم تري ابنتها تمارس الجنس فتقول لها ” قومي يا بنت الكلب لما أخذ دوري أنا بأه ” وألا يعتمد علي المروي وأغلبه تشنيع وبهتان وأن يعتمد علي ما يجده هو وما هو متأكد منه،. ولا يعتمد علي السماع. وكان الكاتب موفقاً عندما لم يعتمد علي الشعار ووصف بنات سيناء بالقشف ورائحة العرق المنفرة طبعاً بسبب حياتهن البائسة .
واختتمت الرواية بمقطع “دوام الحال من المحال” علي طريقة القص الشعبي يحدث فيه سيادة التألف والتعاون بين الناس والترحاب من نساء سيناء ورجالها للزواج بأبناء وبنات الوادي لم يكن هناك داع لهذا المقطع وقد أنبأت الرواية بذلك فعلاً، بلا إن ما صارت إليه حوادثها أخبرت أنها أي سيناء وأبناءها لم يعودا حنظل الشمال بل هما معزوزة الوادي والشمال معاً .
ميدل إيست أونلاين