نقاد الأدب بين المديح واكتشاف كُتّاب جدد
أعتقد أن وظيفة الناقد الأدبي هي قراءة نص جديد، وكتابة تعليق عليه، بما يتضمن ذلك؛ تبيان إيجابيات العمل، وسلبياته، على أن لا يكون “مداح القمر”، ولا يكون هجاءً كالحطيئة. فلقد حضرت ذات مرة مؤتمراً نقدياً في إحدى الجامعات العربية، لروائي معروف، قُدمت فيه عشرون ورقة نقدية، والمدهش في الأمر، أن أياً من النقاد لم يكتُب مثلبة واحدة في هذا الروائي الجميل. ولهذا صرت أرى أن كلمة “نقد” قد تحولت إلى كلمة “مديح”. وهذا الأسلوب، ينفي معنى النقد الأدبي.
وفي مجتمعاتنا، كانت الخالات والعمات تحت مفهوم كلمة “نقد” يذهبن كلهن أو تذهب إحداهن لتنقد العروس الجميلة الشكل، فتُحدِّثها بكل حنان وهي تقترب من فمها، ليس لسبب، سوى أن تشم إذا كان لفمها رائحة. وأخرى تعطيها حبة لوز أو جوز أو بندق أو فستق حلبي، لتكسرها بأسنانها، لترى ما إذا كانت أسنانها سليمة أو مهترئة.. وتشد إحداهن شعر العروس، لترى إن كانت تلبس باروكة، أو أن شعرها طبيعي.
هذا هو مفهوم “نقد العروس” الذي كان يحصل قبل دخول مرحلة الزواج الحديث، الذي لا وقت للحديث عنه. كان هذا النقد يبحث عن الإيجابيات والسلبيات في الجسد الإنساني.
وفي حقل آخر، فإن النقد الأدبي مطلوب منه التمحيص والتنقيص، لتبيان مزايا العمل الأدبي، وعيوبه.
لقد أشبعنا النقاد كتابة عن نجيب محفوظ، ومحمود درويش، وأدونيس، ولكن أفضل النقاد هو من اكتشف لنا كاتباً جديداً، وليس ذلك الناقد الذي يصفق لكاتب مشهور.
وفي مجال فنون التمثيل والسينما، كنت قد قرأت أن الفنان أحمد مظهر هو الذي اكتشف الفنانة ميرفت أمين. فقلت: “وكما هم يكتشفون فنياً، مطلوب من نقادنا الأفاضل أن يكتشفوا كُتاباً جُدداً.”
والناقد الواثق من نفسه، هو الذي يقدم لنا وجهاً جديداً في ميدان الأدب. ولقد كانت ميزة غسان كنفاني إضافة لنصوصه الروائية والقصصية والمسرحية، أنه اكتشف لنا في الستينيات وهو في دمشق وبيروت، شعراء وروائيي الأرض المحتلة في فلسطين، فعرّفنا قامات أدبية كانت مجهولة لدى العرب، بسبب التعتيم الإعلامي المزدوج، ومنهم الشعراء محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، والروائيين إميل حبيبي وجبرا ابراهيم جبرا، وتوفيق فياض، وغيرهم. وهذه القراءات التي قدمها غسان كنفاني، جعلت له قيمة أدبية مميزة لدى جمهور قرائه.
وكنت قبل ست سنوات قد حضرت ندوة نقدية في معرض القاهرة الدولي للكتاب، فلفتني في “المقهى الثقافي” نقد الأستاذ الدكتور محمد حسن عبدالله، صاحب القامة الكبيرة السامقة في جامعة القاهرة، هو أحد مؤسسي جامعة الكويت، وله فضل على الأدب العربي كله، أطال الله عمره.
جلس د. عبدالله في خيمة المقهى الثقافي ينقد رواية “متاهة الغربان” للكاتب الإسكندراني أحمد حميدة غير المشهور في الساحة الأدبية – كان لا يزال بصحة جيدة آنذاك – وبعد انتهاء الأستاذ من تقديمه، استأذنت فوقفت وقدمتُ مداخلة قصيرة شكرت فيها الدكتور الكبير على تفضله بالحديث عن رواية غير مشهورة، لكاتب مغمور نسبياً آنذاك، وقلت إن هذا النقد يفتح بابا لهذا الروائي، ويدل في الوقت نفسه على ثقة كبيرة من طرف الناقد بنفسه، إذ أنه لو نقد كاتباً شهيراً، لحصل على جمهور أكبر، وعلى نشر أكثر من قبل وسائل الإعلام.
وبالفعل، فلقد أشهر ذلك النقد رواية “متاهة الغربان” ومن ثم أشهر أحمد حميدة الذي لم يمهله القدر فأخذه منا بعد وقت قصير. هنا يستطيع الناقد أن يقول لنفسه وللآخرين، إنه قام بعمل إيجابي، إذ قدم لنا كاتباً يستحق أن يُعلى شأنه.
ولكن بعض النقاد يكتبون عن مشاهير الكتاب، للتباهي بجلوسهم إلى جوار هؤلاء الأدباء الذين يشار إليهم بالبنان. فذات يوم في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2009، كانت ندوة عظمى مقررة مبرمجة، وصادرة في نشرة الندوات لقراءة أشعار تخليداً لذكرى شاعر مجيد، كان قد توفي قبل خمسة أشهر تقريباً، وكان حضوره عادة بالآلاف أيام اعتلائه صهوة المنصة. وعندما ذهبت لحضور الندوة حسب البرنامج المقدم، وجدت أن النقاد الثلاثة جميعهم لم يحضروا، وأن الجمهور لم يحضر تباعاً، ولم يكن هناك سوى سكرتيرة الندوة تجلس يتيمة بعيداً عن المنصة. قلت لنفسي: قد يكون السبب أن الشاعر المذكور كان قد توفي، فلا نقاد ولا متلقين بالنتيجة.
وهذا يؤكد أن بعض النقاد – وليسوا كلهم – إنما ينقدون كاتباً شهيراً، بهدف التوأمة معه، وليس بهدف خدمة القراء، الذين ينتظرون من النقاد أن ينيروا لهم الطرق الأدبية، ويميزوا لهم الغث من السمين، في كتابات كُتّاب جدد.
ميدل ايست أونلاين