نقاد عرب يدرسون ثوابت الرواية العربية المعاصرة ومتغيراتها
لا يسجّل السرد واقعًا، أو يعكس حقيقة قائمة، إنّما يقوم بتركيب عوالم متخيّلة مناظرة للعوالم الواقعيّة، فيتدخّل التأويل في كشف أوجه التماثل فيما بينها، وقد أصبحت الرواية “ديوان العرب” لأنها قامت بتمثيل سردي متنوّع لأحوال المجتمعات العربية، وقدمت بحثا مجازيا في الصراعات السياسية، والمذهبية، والعرقية، بما في ذلك الهويات، والآمال، والحريات.
وقد شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين، تحولا جذريا في الوظيفية التمثيلية للرواية العربية التي لم تعد مجرد مدونة نصية شفافة تعرض حكاية متخيلة، إنما أصبحت، في كثير من نماذجها، أداة بحث، يمكن بها استكشاف العالم، والتاريخ، والإنسان، والكيفية التي تتشكّل بها المادة السردية، وطرائق تركيبها، وأساليب السرد، ثم الرؤى التي من خلاها تنبثق كل عناصر البناء الفني، وأخيرا الإحالات التمثيلية للنصوص على مرجعيات بدرجات متعددة من مستويات التأويل، بما يؤكد اشتباك السرد مع العالم الذي يجري تمثيله، فالمجتمعات عن طريق السرود التاريخية، والدينية، والثقافية، والأدبية تشكّل صورة عن نفسها وعن تاريخها، وقيمها، وموقعها في العالم، ولكي ينجح السرد في ذلك عليه أن يراعي “الفصاحة”.
هذا ما يطلق عليه الناقد العراقي عبدالله إبراهيم مصطلح “الفصاحة السردية الجديدة”، وقد فصله نظريا في دراسته “الفصاحة السردية الجديدة المفهوم وبعض نماذجه التمثيلية” التي تصدرت كتاب “الرواية العربية المعاصرة: ثوابت ومتغيرات” الصادر عن مؤسسة كتارا القطرية، في خريف 2017.
الانفجار الروائي
أما الناقد المغربي عبدالرحمن بو علي، في دراسته “تحولات الشكل والدلالة في الرواية العربية” فيركز على الرواية العربية خلال القرن الحالي، وهو ما يسميه “راهن الرواية” منطلقا أولاً ممّا راكمته الرواية العربية من تجارب، وثانياً من الفكرة القائلة بأن الأدب العربي ينشأ في أحضان المجتمع، ومنه ينبثق فنّاً ورؤى وهو يرى أن المرحلة الراهنة التي شهدت انفجارا روائيا جاءت كنتاج طبيعي لمراحل أربعة سابقة متواصلة هي الولادة ثم التجذر وتلتها مرحلتي التوسع والتجديد وصولا إلى “الراهن” الذي تعالجه الدراسة انطلاقا من مصطلحي “الشكل” و”الدلالة”، كمفهومين إجرائيين لتحديد وتحليل مكونات النص الروائي من جهة وللإشارة إلى الثيمات المنبثقة عن النص من جهة ثانية.
فالانفجار الروائي الذي تشهده المرحلة الراهنة ليس كميا فقط، بل صحبه تنويع كبير في أساليب السرد ومكوناته وأشكاله، وفي ارتياد آفاق واسعة من الأفكار والثيمات والقضايا، وفي استنطاق كوامن النفس البشرية. ومرد ذلك كله إلى نجاح الرواية العربية في التخلص من كلاسيكيتها الموروثة عن المؤسسين الأوائل، وأيضا إلى استطاعتها أن تجذر مرحلة تجديد خطابها، وبذلك خلقت مشهدا جديدا يغلب عليه الرفض العنيف للجماليات الروائية الراسية، والتمرد الواضح على الوعي الجمالي المألوف، وبذر الشك في القيم السائدة، والاحتجاج الحاد على كل المعاني المتعددة للسلطة.
وخلص إلى أن أهم ما يميز الرواية العربية في راهنيتها يتمثل في تذويت الخطاب الروائي بمعنى أن الرواية مكنت الذات من استعادة صوتها الذي كان مغيبا وهو ما ارتبط أحيانا بتوظيف السيرة الذاتية في النص كما في “أداجيو” لابراهيم عبدالمجيد، و”الحارس” لعزت القمحاوي، وتشظي وتفكك المحكى الروائي تعبيرا عن موقف السارد المتشكك من الواقع الذي يعبر عنه، تهجين اللغة الروائية وهي سمة ظاهرة منذ الستينيات لكنها في المرحلة الراهنة أصبحت مكونا أساسيا في النصوص الجديدة، حيث يجسد الخطاب الروائي المهجن الفسيفساء الاجتماعية التي تتلاقى وتتصارع على صعيد الواقع والتوجهات والأفكار وهنا يتوقف عند روايتي “سوناتا لأشباح القدس” لواسيني الأعرج و”العلامة” لسالم حميش.
واهتم روائيو المرحلة بإغناء مضامين رواياتهم بمختلف أنواع المعارف، فتميزت رواية الراهن بالعمق والثراء وإثارة الأسئلة الكبرى ونهلت من الأساطير والرموز فلم تعد مجرد روايات وأحداث وشخوص بل أيضا معرفة عميقة ممتعة كما في “عزازيل” ليوسف زيدان، و”علبة الأسماء” لمحمد الأشعري.
التراث والتطرف
وفي ثالث محاور الكتاب تناول الرؤى التي قدمتها الرواية العربية المعاصرة حيث اهتم الناقد السعودي الدكتور معجب العدواني عبر دراسته “أشكال التناص مع الموروث ووظائفه في الرواية العربية المعاصرة” بتقييم توظيف التراث في الرواية العربية في القرن الجديد، فلم يعد مجرد ظاهرة روائية بارزة بل أصبح أحد الخصائص الرئيسية في الرواية العربية المعاصرة، وهم يتعاملون معه باعتباره حوارا بين الماضي والحاضر، وأيضا بوصفه أحد مطالب الحداثة، ويحدد الباحث أبرز الوظائف التي استهدفها الروائيون المعاصرون في طرحهم لسؤال التراث، ويرى أنهم تجاوزوا الوظيفة التعريفية التي استهدفت استجلاب التراث التي رافقت الموجة الكلاسيكية، كما تجاوزت الوظيفة النفسية ومصدرها النظر إلى التراث باعتباره نتاجا لفترات مجيدة، فتصبح العودة إليه في زمن الخوف نوعا من البحث عن الأمان الذاتي.
أما الوظيفة الثالثة فهي سياسية يتكىء فيها الروائي على التراث كقناع يغطى معارضته للسلطة، وقد تم تجاوز الوظائف الثلاثة إلى وظيفة رابعة عرفانية تتيح للسارد أن يتعرف على ما حوله عن طريق المشاهدة القلبية بعيدا عن العقل والمشاهدة الحسية. ويحصر الباحث صور تناص الروائي المعاصر مع التراث في ثلاثة أنواع تراوح بين الاكتمال أو التوازي أو التضمين.
أما “سؤال العنف والتطرف في الرواية العربية في مطلع القرن الحادي والعشرين” فقد طرحته دراسة الناقدة الأردنية رزان محمود إبراهيم، حيث تقول “مع كل الخراب المريع المستشري في عالمنا العربي بات الروائي معنيا برصد حالات جشع وشراسة وعدوانية لاصقة بالبشر، ولم يعد بالإمكان الحديث عن ضحايا بالمقدار نفسه الذي نحكي فيه عن مجرمين آثمين، هكذا تأخذنا الرواية المعاصرة باتجاه التفكير بمنطق الصراع بين طرفين يسعى كل منهما إلى إزاحة الآخر فعليا ولفظيا، كما في “حرب الكلب الثانية” لابراهيم نصرالله، وأيضا رواية “فرانكشتاين في بغداد” لأحمد سعداوي التي أكدت أن العنف الإرهابي سيولد العنف المضاد للإرهاب، وهكذا تقرع الرواية العربية الأجراس محذرة من مستقبل مآله الخراب تقودنا إليه اقتتالات متتالية يقودها عرب يأكل بعضهم بعضا. وكما يصفهم واسيني الأعرج في في “رواية العربي الأخير” بأنهم “يتقاتلون على الماء والكلأ وبقايا النخيل المحروق، بحيث يمحون آثارهم منتصرين كانوا أو منهزمين”.
ميدل إيست أونلاين