نموذج الإسلام المعتدل في تركيا قد يكون خادعاً (مورات سومير)

 

مورات سومير

 

في الآونة الأخيرة، اتخذ حزب العدالة والتنمية منحىً قومياً واستبدادياً يستند إلى النزعة الدينية المحافظة، فبدل تعزيز المحاسبة في النظام السياسي، عزز أردوغان مركزية صنع القرار، وهو يريد الآن إرساء نظام رئاسي.
ماذا يمكن أن نتعلم من تركيا بشأن ترسيخ الديمقراطية في مجتمع مسلم؟ فبينما أدى فيلم مسيء إلى النبي محمد إلى انطلاق احتجاجات مميتة في عدد من الدول المسلمة، وقعت احتجاجات سلمية فقط داخل تركيا، ما الذي يجعل تركيا حالة مختلفة؟
حصد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إشادة واسعة شملت حزبه الإسلامي المعتدل الذي ساهم في تهدئة عدد من الإسلاميين، فلا شك أن فصلاً كبيراً من قصة النجاح النسبي للديمقراطية والعصرنة التركية يتعلق باعتدال النزعة الإسلامية السياسية خلال التسعينيات والانتقال من الإيديولوجيا التي توجهها الدولة إلى البراغماتية الموجهة نحو الشركات بقيادة حزب العدالة والتنمية.
لكن قد تكون هذه القصة خادعة، ما يمنع استخلاص الدروس منها. يعكس النموذج التركي نجاحاً نسبياً لأنه نجح في بناء مؤسسات اجتماعية وسياسية علمانية وديمقراطية نسبياً، لكنه فشل على مستويات أخرى لأن تلك المؤسسات كانت شائبة أو لم تشهد أي تحسن عبر التعاون بين مختلف القوى الدينية والعلمانية.
لم تنجح تركيا بفضل الإسلاميين المعتدلين، بل نجح الإسلاميون المعتدلون بفضل المؤسسات العلمانية والديمقراطية الناشطة جزئياً في تركيا.
في السنوات الأخيرة، عزز حزب العدالة والتنمية الشوائب التي تُثقل الديمقراطية التركية العلمانية بدل معالجتها، فتكمن المفارقة في واقع أن الرياح الديمقراطية التي طبعت الربيع العربي أدت إلى تسارع تلك النزعة.
تأسست تركيا المعاصرة خلال العشرينيات بفضل الراديكالية العلمانية، فمن الناحية السلبية، برز إرث ثقافي وتاريخي معقد وترسخت مشاعر البغض تجاه النخب الإسلامية التي تعرضت للقمع. من الناحية الإيجابية، برزت ثلاثة إنجازات أساسية: بناء هوية وطنية شاملة؛ الحد من العدائية تجاه الغرب وفك الارتباط بين العصرنة الاجتماعية والاقتصادية والتطرف الإسلامي؛ وإنشاء مؤسسات علمانية وحيادية قوية نسبياً.
لكن ما كانت هذه المعطيات لتبرر التمييز بين تركيا والجمهوريات العلمانية الاستبدادية في العالم العربي لو لم تتخذ النخب العلمانية في تركيا مواقف معتدلة، ولو لم تسمح بإجراء انتخابات متعددة الأحزاب بعد عام 1950. فضلاً عن ذلك، أنشأت تركيا عدداً أكبر من المؤسسات الاقتصادية الشاملة والتنافسية استناداً إلى مبدأ الليبرالية بعد عام 1980، وقد اتسع هامش المحاسبة في تلك المؤسسات عبر تطبيق الإصلاحات بإشراف صندوق النقد الدولي بعد الأزمات المالية في عامي 2000 و2001.
إن حزب العدالة والتنمية هو نتاج تلك الإنجازات، صحيح أن المؤسسات العلمانية تصدّت للإسلاميين السياسيين، لكن منحتهم الانتخابات الحرة والعادلة فرصة تعديل مواقفهم والوصول إلى السلطة. كذلك، ساهمت المؤسسات الاقتصادية الليبرالية نسبياً في منح حزب العدالة والتنمية الأدوات اللازمة لإدارة الاقتصاد وإنشاء طبقة وسطى تتألف من المحافظين المسلمين.
لكن كانت المؤسسات الديمقراطية العلمانية في تركيا شائبة. صحيح أن العلمانيين سمحوا بتداول السلطة عبر إجراء انتخابات حقيقية، لكنهم تركوا السلطة المطلقة بيد الجيش وأجهزة الدولة النافذة. فبينما طورت تركيا هوية وطنية قوية ومؤسسات حيادية نسبياً، حصلت أعمال تمييز بحق الأقليات ولا سيما الأكراد. تحت شعار الفصل بين الدولة والدين، سيطرت المؤسسات العلمانية المزعومة على الدين ونشرت الإسلام السني وقمعت العلويين، وانتهكت الحريات العلمانية والدينية معاً. احتفظت الحكومات المتلاحقة بصلاحيات هائلة لكبح الحريات الاقتصادية والتمييز بين رجال الأعمال لأغراض سياسية.
تمنى مناصرو حزب العدالة والتنمية أن يعالج الحزب هذه الشوائب. بذل الحزب جهوداً كثيرة، أبرزها إضعاف تدخل الجيش في الشؤون السياسية.
في الأسبوع الماضي، أصدرت محكمة مدنية حكماً غير مسبوق يقضي بسجن ثلاثة من كبار الجنرالات السابقين مدة 20 عاماً بتهمة التخطيط لانقلاب في عام 2003، سعى حزب العدالة والتنمية خلال أول ولايتين له إلى تطبيق أجندة إصلاحية شاملة ترتكز على معايير الاتحاد الأوروبي.
لكن في الآونة الأخيرة، اتخذ حزب العدالة والتنمية منحىً قومياً واستبدادياً يستند إلى النزعة الدينية المحافظة، فبدل تعزيز المحاسبة في النظام السياسي، عزز أردوغان مركزية صنع القرار، وهو يريد الآن إرساء نظام رئاسي. رفضت أنقرة الانفتاح على الأكراد وعادت لتطبيق سياسات عسكرية، كذلك، تستفحل المحسوبيات السياسية والدينية والنزعات الانتهازية في التعيينات الحكومية وترقية الموظفين.
تكمن المفارقة في واقع أن مشاكل المنطقة بعد الربيع العربي تؤجج تلك النزعات، مهدت سياسة “انعدام المشاكل مع الجوار” لزيادة التوتر مع سورية وإيران والعراق وإسرائيل، دفعت مشاكل السياسة الخارجية بالحكومة إلى التقرب من القوى السياسية السنية في المنطقة، ما جعلها أقل تقبلاً للانتقادات.
بدأ الخطاب السائد يميل بشكل متزايد إلى النزعة الدينية والطائفية المعادية للغرب، لم تحدث أي تظاهرات عنيفة احتجاجاً على الفيلم المسيء للإسلام، لكن قال بعض “الخبراء” الأكاديميين: “يحتاج الغربيون دوماً إلى “كره الآخرين” كي يبنوا هويتهم الخاصة”… “نحن الشرقيين مختلفون ولا نحتاج إلى ذلك لأننا نتقبل اختلاف الانتماءات الإثنية والدينية”.
لا يمكن لوم حزب العدالة والتنمية على هذه الشوائب كلها، لا تزال تركيا ديمقراطية انتخابية، وسيُجبَر حزب العدالة والتنمية على إصلاح نفسه إذا أراد أن يكون خياراً بديلاً قابلاً للاستمرار، لكن يمكن أن يقدّم حزب الشعب الجمهوري سياسات بديلة مناسبة لحل الصراع الكردي وإصلاح العلمانية وإدارة الاقتصاد وتوفير الخدمات.
لكن يمكن أن تبقى تركيا نموذجاً إيجابياً رغم كل شيء. كانت إيجابياتها مقارنةً بغيرها ترتكز على عمل المؤسسات العلمانية والديمقراطية. يمكن أن تساهم العملية الراهنة لصياغة دستور جديد تقبله الأحزاب المختلفة في جعل تلك المؤسسات علمانية وديمقراطية بمعنى الكلمة.
لكن لضمان حدوث ذلك، يجب ألا تكرر النخب التركية أخطاء الماضي، يجب أن يشارك جميع الأطراف في اتخاذ القرارات الحاسمة، بما في ذلك الأتراك والأكراد، والرجال والنساء، والقوى الدينية والعلمانية.
لا يتعلق أهم درس يمكن استخلاصه من التجربة التركية بطريقة فوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات أو بتعديل أيديولوجيته الإسلامية وخطابه المتشدد. فقد يغير الحزب مساره مجدداً، ولا يتعلق الدرس الأساسي بتجاهل الانتماءات الإثنية والدينية، بل يكمن التحدي الفعلي في بناء مؤسسات ديمقراطية شاملة وحيادية على المستوى الإثني والديني بالاستناد إلى مبادئ التعاون والتسوية.

صحيفة ذا ناشونال

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى