نوافذ

نهايةُ البداية

اليمامة كوسى

بعد أن انتهيت من وضع آخر إجابة لي على ورقة الامتحان الطبيّ الموحّد الذي اجتزناه منذ أيام، جلستُ قليلاً في المقعد  قبل أن أسلّم الورقة وأخذت أفكّر بهذا العام المزدحم بالأحداث والذي ربما ستكون عبارة/ الأطول على الإطلاق/ صغيرة جداً أمامه، وذلك إن أراد أحدنا أن يُلقي بنظرة خاطفة على سلسلة سيناريوهاته التي قد يعجز عن كتابتها حتى أصحاب الخيالات التراجيدية الجامحة!

وبعد أن خرجت إلى ساحة الكليّة نظرتُ إلى برنامج الامتحان الذي يجمع كل تواقيت امتحانات السنوات الماضية وأخذت أتطلّع إلى أسمائها الواحدة تلو الأخرى..

وبعيداً عن المشاعرِ المختلطة التي راودتني وأنا أفكّر بكميّة الصبر الذي  تحمله أسنِمَةُ الطلاب لدينا وما تخفيه تحتها من تعبٍ وجهدٍ ومحاولات مستمرة للإبقاء على الثبات الانفعالي حاضراً في ظلّ مختلف الضغوطات؛ كان هناك أمرٌ آخر أكبر من ذلك بكثير يحوم حول رأسي وكان لزاماً عليّ أن أدرك ماهيّته…

ولكوني أمتلكُ يقيناً راسخاً بأن مسار كل شيء في هذا الكون يكون من الداخل إلى الخارج وبأنّه إن كان هناك مجال لتتبّع هذا المسار فإنه سيكون من داخله لخارجه دون أدنى شك؛ فكّرتُ بأننا نستطيع أن نفهم الأمور الكبيرة المعقّدة من خلال البدء بجزئية صغيرة نوقنها ثم ننطلق منها لفهم ما استطعنا فهمه من الكلّ اللامحدود..

وأمّا الجزئية الصغيرة التي أدركتها بعد تمعّني في ذلك البرنامج الجداريّ المعلّق؛ هي أنّني وبعد تقديمي لحوالي سبعة وستين مقرّر علميّ ابتداءً بعلوم الفيزيولوجيا والبيولوجيا والتشريح والكيمياء الحيويّة والوراثة والجنين وعلم النفس وغيرها، وانتهاءً بالعلوم الطبيّة السريريّة بكافة اختصاصاتها المتنوعة..

أصبحت – وأكثر من أيّ وقت مضى- أقرب إلى إدراك عظمة خالق هذا الكيان الإعجازي العظيم الذي يسمّى/الإنسان/، وبتّ أفهم بعمق الغرض التعجّبي الذي خرج إليه الاستفهام في قوله تعالى “وفي أنفسكم أفلا تُبصرون”..

صحيح بأنّني أُقرّ بمدى إذهال ما تخبرنا به العلوم الفلكيّة اليوم عن حجم الكون الممتدّ، بكل تلك الأرقام التي قد لا يمكننا تصوّر كم هي هائلة بشكل فعليّ؛ ولكنني لن أجد بعد دراستي لأبسط عضو أو أبسط آلية تكيّفية أو أبسط معلومة عن جسم الإنسان ما هو أعظم وأقدر منها على غرس الإيمان في أعماق القلب، فهل هناك ما هو أقرب إلى الإنسان من نفسه؟!

قد يكون القفز من الجانب العلمي إلى الجانب الروحي مستهجناً لدى البعض في عصرنا الحديث، إذ غالباً ما نجد فيه رجحاناً واضحاً لإحدى كفّتي ميزان /العلم والدين/ على الكفّة الأخرى، ولكنني الآن أستطيع القول بأنّه من غير الصحيح رؤية هذا الميزان على تلك الصورة المؤسفة من المَيلان الحديّ المجحف بحقّ إحدى الكفّتين على حساب الأخرى!

لا أعلم لماذا نسأل دائماً عن كيفية الفصل بين الجانبين؟!

لمَ لا نسأل عن كيفية الجمع بينهما؟!

لطالما تخيّلت ذلك القسم الرغيد من العالم الذي كان ليكون لو استطعنا أن ننمّي الجانبين المادّي والروحي معاً جنباً إلى جنب..

حضارة جديدة لا منازع لها بين الحضارات تجمع حداثة الغرب والتطوّر التقني الهائل مع روحانيّة الشرق وقدسيّة القيم والمعاني..

حضارة تضع القلب والعقل في ميزان واحد ويبقى متوازناً ثابتاً دون أن تؤول الحال إلى إقصاء أحدهما للآخر..

وختاماً لا بد لي من القول بأنني أحمد اللّه في كل لحظة على كوني استطعت اجتياز هذه السنوات الستّ وأنا أستشعر عظمته ورحمته وعطاياه الغامرة لي في كوني موجودة في هذا المكان الذي اكتشفت بأنني أحبّ أن أكون فيه حقّاً.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى