نهاية الشرق الأوسط كما نعرفه
ما يحدث في المنطقة العربية والشرق الأوسط ليس اعتيادياً، إذ يدخل الإقليم مرحلة مختلفة في سياساته. ولأوّل مرة -منذ سنوات عديدة-تجري تفاهمات تتجاوز أو تخترق خطوط الصدع الكبرى فيه. ومن ذلك التقارب بين إيران والسعودية، والانفتاح العربي على سوريا، والموقف بين سوريا وتركيا، وبين تركيا ومصر، والحوار الاستراتيجي بين إيران والإمارات إلخ.
وثمة تنسيق متعدّد الأنماط والأبعاد بين فواعل المقاومة في الإقليم. وأظهرت موجة الاحتجاجات غير المسبوقة في “إسرائيل” كياناً يعاني صدوعاً عميقة في بناه الاجتماعية والسياسية، وهواجس متزايدة حيال المستقبل. وكانت صورة “إسرائيل” (مؤسطرة) و(متخيّلة)، وأصبحت اليوم أكثر واقعية ووضوحاً!
ميزان المعنى والقوة
ما يحدث في الإقليم “يتمفصل” مع تطوّرات مهمة في النظام العالمي، وخاصة الحضور المتزايد لروسيا والصين في سياسات الإقليم، مقابل التراجع النسبي للحضور أو التأثير الأميركي. المسألة ليست افتراضية وإنما واقعية جداً، فقبل سنوات قليلة تمكّنت أميركا من “إجهاض” اتفاق تعاون استراتيجي بين العراق والصين، ولكنها لم تتمكّن من “إجهاض” أو “احتواء” رعاية صينية للتقارب بين إيران والسعودية، ولا “إجهاض” مساعي روسيا للتقارب بين العرب وسوريا.
التطورات في الإقليم، وخاصة بين السعودية وإيران، وإلى حد ما بين سوريا وتركيا، تتجاوز بعض الشيء أنماط الانقسامات والتحالفات المعروفة فيه، خلال عدة عقود، وخاصة ما عُرف بـ “حلف الاعتدال” مقابل “حلف المقاومة”، أو العرب مقابل إيران، وقيل الكثير عن حلف “ناتو عربي” أو “ناتو شرق أوسطي” يجمع العرب و”إسرائيل” ضد إيران.
هل انتهى الشرق الأوسط كما نعرفه؟
هل يعني ذلك أن الشرق الأوسط مضى مع ما كان من تأثير وتغلغل خارجي وتحالفات وهيمنة أميركية وغربية عليه، وهل يمكن القول إن الشرق الأوسط الذي كنّا نعرفه انتهى، وبالتالي هل نحن في شرق أوسط جديد؟
عنوان المقال، “نهاية الشرق الأوسط كما نعرفه”، مستوحى من عنوان كتاب عالم الاجتماع والسياسة والمفكّر اليساري الأميركي إيمانويل والرشتين بعنوان “نهاية العالم كما نعرفه”، وبالطبع، لا والرشتين ولا كاتب هذا المقال، من أصحاب “النهايات” أو “التعميمات المتسرّعة”، إنما ثمة أمور تنتهي بالفعل، ليس بمعنى القطع والفصل بالتمام، وإنما تغيّر المدارك والديناميات، وبروز أطر تفكير جديدة، تتكئ على الجديد الذي يحدث، ولكنها لم تتحرّر بالتمام مما كان.
ثمّة كلام مهم لـ أنطونيو غرامشي بهذا الخصوص، عن القديم الذي مات والجديد الذي لم يولد بعد. وربما كان الإقليم في “مخاض ولادة جديد”، فيما لا يزال القديم ينازع للبقاء، وثمة من يريد إعادة إنتاجه من جديد: دول وتنظيمات ومؤسسات وشبكات وفواعل قوى تنظر للتقارب الإقليمي بوصفه مصدر تهديد، وسوف تعمل كل شيء ممكن من أجل إجهاضه، لا ننس اعتراض الولايات المتحدة و”إسرائيل” ودول أخرى على الانفتاح العربي على سوريا، والتقارب بين السعودية وإيران.
مكونات وموانع
يقول عبد الله العروي: ان “مكوّنات السياسة عندنا هي في الوقت نفسه موانع السياسة”، (ديوان السياسة، ص62). وإنّ “مكوّنات التغيير” في الإقليم كانت هي نفسها “عوائقه”، واليوم عندما يتجه صنّاع القرار في دول مثل إيران وسوريا والسعودية والإمارات والعراق والأردن ومصر وتونس وعمان وتركيا وغيرها لتغيير النمط في السياسة، والدخول في رهانات وديناميات التغيير والتقارب، فهذا يمثّل مصداقاً للقول: إن “مكوّنات السياسة” كانت هي “موانع السياسة” في الإقليم، وثمة فرصة اليوم لأن تنقلب المعادلة المذكورة، لتتحوّل “موانع السياسة” إلى “مكوّنات السياسة”.
لكن القصة ليست في لحظة التقارب والانفتاح فحسب، على أهمية ذلك، وإنما في لحظتين أخريين أيضاً: الأولى “ما قبل”، أي ما الذي جعل التغيّر ممكناً، هل تغيّرت الرؤية بالفعل، وهل التغيير نتيجة قناعات عميقة؟ والثانية، “ما بعد”، أي في ما يصدر عنه أو يؤول إليه، وهل يحقّق تقدّماً جدياً، ويخلق وقائع جديدة قابلة للاستمرار والاستقرار؟
ما بين هذا وذاك، قد تحدث أمور كثيرة، منها تعرّض دول الإقليم وفواعل السياسة والحكم فيها لضغوط وإكراهات، ومحاولات التأثير، وأيضاً “قوة العادة” والمدارك النمطية السلبية أو الرافضة، وبروز أحداث “غير متوقّعة”، أو اختراقات أو أزمات مصطنعة، أو إخفاق في تدبير المواقف والسياسات في الفترة الانتقالية إلخ. ما يمكن أن يؤدي إلى نكوص في المواقف، وعادة ما يكون النكوص عن التقارب أكثر خطراً من التباعد نفسه.
لعبة “لا صفرية“
إنّ لحظة التقارب الإقليمي، وخاصة بين إيران والسعودية، هي حدث غير مسبوق، ربما خلال عدة عقود، ومن المؤمّل أن يكسر النمط، يقاوم التدخلات والإكراهات الكثيرة. وإذا نجحت إيران والسعودية في ذلك، فسوف يكون للمنطقة وجه آخر، أو قل أفق آخر. وهذا هو الأصل في “نهاية الشرق الأوسط كما نعرفه”.
ما يحدث في المنطقة، ليس في أفق السجال أو الصراع، ولو أنه لا يقطع معه بالتمام، بل في أفق الحلحلة والزحزحة. وليس مجرد تغيير النمط أو نوع من التكتيك، ولو أنّ فيه شيئاً من ذلك. وهو ليس قطعاً مع ما كان، وإنما هو محاولة لتغيير ديناميات التفاعل في الإقليم، بما يجعله إقليماً تحكمه سياسات “لا صفرية”، وتجزئة أو تقطيع للمشكلات والجبهات، وموازنة أو تكييف الأولويات. وهكذا، “يتعاون الأطراف على ما يتفقون عليه، ويعذر بعضهم بعضاً على ما يختلفون فيه”.
في الختام
إنّ الحديث عن “نهاية الشرق الأوسط كما نعرفه”، ليس حديثاً عن انقلاب المشهد والقطيعة بالتمام مع ما كان، فهذا مما يصعب تصوّره؛ إذ ثمة وقائع مادية وتاريخية وجغرافية، وإكراهات ورهانات ليس من السهل على فواعل السياسة تجاوزها. وإنما حديث عن التغيير الحاصل في ديناميات التقارب-التباعد، وأفق التفاهمات الحاصلة بين فواعل الإقليم الرئيسة.
ليس المطلوب تغيير كل شيء أو التوافق على كل شيء، وإنما توسيع الأفق، وتدبير النزاع، وإدارة الاختلاف، انطلاقاً من اعتبارات تخص المنطقة أولاً، وليس تحالفات دولها في النظام العالمي والهيمنة الغربية، والتفكير في السياسات في أفق مشترك. وتظهر مؤشرات مهمة على هذا الصعيد، وهو ما يعزّز القول بـ “نهاية الشرق الأوسط كما نعرفه”، لكن من المبكر الحديث عن “شرق أوسط جديد”، أهله هم الأوْلى بصناعته وتشكيله.
الميادين نت