نهاية نزوح ظنّوه أبدياً: الغزّيون يعودون إلى «قلبهم»

دخل وقف إطلاق النار في قطاع غزة، ظهر أمس، حيّز التنفيذ، بعد مماطلة إسرائيلية دامت يومين، ولم تكن خالية من الخروقات ومحاولات تحقيق إنجاز نوعي في اللحظات الأخيرة. وهكذا، بدا القرار السياسي بإرجاء الموافقة على بنود الاتفاق مرتبطاً بما يقدّمه المستوى الأمني من فرص مفترضة، من بين تجلّياتها قصف جيش الاحتلال، مساء أول من أمس، منزلاً يعود إلى عائلة غبون في حي الصبرة في مدينة غزة، وإذ روّج الإعلام العبري لعملية اغتيال لشخصية وازنة، تبيّن أن المنزل المُستهدف كان يؤوي نحو 50 نازحاً، استطاعت طواقم الدفاع المدني انتشال جثامين 5 شهداء منهم، فيما صُنّف البقية في عداد المفقودين. وبرّر الإعلام العبري في وقت لاحق المجزرة، باستهداف مقاوميْن من حركة «حماس» شكّلا تهديداً للجنود القريبين من المكان.
وعند الثانية عشرة من ظهر أمس، أتمّ جيش الاحتلال انسحابه وإعادة انتشاره في محيط الخط الأصفر، الذي يقضم، وفق ما أعلنه العدو، 58% من مساحة القطاع. وبحسب خريطة الانسحاب، فإن المرحلة الأولى من الاتفاق التي تمتد 72 ساعة، والتي سيتم فيها تسليم جميع الأسرى الأحياء لدى المقاومة وما يتم العثور عليه من جثامين، ستبقي على انتشار جيش العدو في كامل مدن بيت لاهيا وبيت حانون شمال مدينة غزة، وأجزاء واسعة من أحياء التفاح والشجاعية والزيتون شرق المدينة، وفي مدينة رفح وأجزاء واسعة من مدينة خانيونس جنوباً، فيما انسحبت قوات الاحتلال بشكل كلّي من محور «نتساريم» ومدينة غزة وأحيائها الشمالية الشرقية والغربية.
وفور الانسحاب من محور «نتساريم» وسط القطاع، عاد عشرات الآلاف من النازحين من وسط القطاع وجنوبه إلى الشمال. وعلى الرغم من أن ثمّة شعوراً بالريبة والخوف من سلوك العدو وغدره، فإن المشهد في شارعي الرشيد وصلاح الدين كان مهيباً، إذ قطع مئات الآلاف أكثر من 20 كيلومتراً مشياً على الأقدام للوصول إلى المدينة، على الرغم من معرفة أكثرهم سلفاً بأن أحياء كاملة جرى مسحها عن وجه الأرض. ويقول أحمد عاصم، في حديث إلى «الأخبار»؛ إنه «لا يوجد شعور يمكن أن يصف لحظة دخولنا المدينة مجدّداً. وقد ظننّا في نزوحنا الأخير أننا لن نعود إليها مجدّداً.
مئات الآلاف قطعوا أكثر من 20 كيلومتراً مشياً على الأقدام للوصول إلى مدينة غزة
نحن لا نعود إلى بيوت مُهدّمة وأكوام من الخراب، وإنما نعود إلى جذورنا وتاريخنا وهويتنا التي أراد العدو محوها وسلبها. نعود أعزاء من دون حواجز تفتيش ومن دون حلابات المحتل». أمّا أبو محمود النذر، وهو نازح من حي التفاح إلى مدينة دير البلح، فيبرّر عودته السريعة إلى مدينة غزة على الرغم من خرابها، بقوله: «العمر قصير جداً، أنا أستغلّ كل لحظة حياة لأعيشها في غزة، في مدينتنا التي نحب».
في المدينة، لا يبدو أي شيء كما كان: آلة الخراب والتدمير مسحت مناطق واسعة عن وجه الأرض؛ ومئات البنايات السكنية المرتفعة والأبراج الشاهقة سُوّيت بالأرض؛ فيما أحياء كاملة في المدينة كانت حتى قبل العملية الأخيرة سليمة نسبياً، أزيلت عن الخارطة. أما شوارع المدينة الرئيسية، الجلاء والثلاثيني والنصر، فغيّرت العربات المفخّخة شكلها الحضاري، وحوّلتها إلى أكوام من الركام. كذلك، دمّرت آلة العدو أحياء أبو إسكندر وجباليا البلد والنزلة والشيخ رضوان الغربي ومناطق واسعة من حي النصر غرب مدينة غزة.
وعلى الرغم من قدْر الخراب الذي يشي باستحالة إعادة الحياة، وهو الهدف الإسرائيلي من عمليات التدمير الممنهج، فإن مئات الشاحنات المحمّلة بالعائلات عادت إلى الأحياء المدمّرة، فيما بدأت الجرافات والآليات بفتح الشوارع الرئيسية، وشرعت بلدية غزة في إصلاح ما يمكن إصلاحه من خطوط المياه، في تجلّ لإرادة التعافي فوق الدمار.
وبالتوازي مع ذلك، أكّد مصدر من حركة «حماس» أن مساعدات إغاثية وإنسانية ضخمة ستدخل قطاع غزة في الأيام المقبلة، بما يشمل الوقود وغاز الطهو ومتطلّبات الإغاثة العاجلة، في وقت أعلنت فيه «مؤسسة غزة الإغاثية» الأميركية السيئة الذكر، عن توقّف عملها رسمياً في القطاع، ما يُغلق صفحة سوداء غُمِّست فيها لقمة العيش بالدم.
صحيفة الاخبار اللبنانية