نهاية «نهاية التاريخ»: الفوضى العالمية فُرصتنا الأنسب
موقف غالبية بلدان الجنوب، وبينهم حلفاء تاريخيون للولايات المتحدة، من النزاع الدائر في أوكرانيا، ورفضهم إدانة روسيا وفرض عقوبات عليها، مؤشّر قوي جديد إلى التراجع المستمرّ والمتسارع للهيمنة الأميركية. مَن كان يتصوّر، حتى بضع سنوات خلت، أن السعودية مثلاً، التي سارت خلف واشنطن طوال عقود الحرب الباردة وبعدها، واندرجت في استراتيجيتها العامّة ليس في الشرق الأوسط وحده، بل في أميركا اللاتينية وأفريقيا أيضاً، سترفض الانحياز إليها في مواجهتها الحيوية الراهنة مع موسكو؟ أمّا الهند، التي تحوّلت منذ مطلع الألفية الثانية إلى حليف رئيس، بنظر الاستراتيجيين الأميركيين، في مقابل الصين، وشريك بارز في «كواد»، فإن موقفها من النزاع في أوكرانيا، وقرارها مضاعفة وارداتها من النفط الروسي بأربع مرّات، والدفع بالروبل وليس بالدولار، ولّد صدمة جديدة لهؤلاء الخبراء الاستراتيجيين. المقاربة التركية للنزاع في أوكرانيا، وإن كانت مختلفة عن تلك المذكورة، تتمايز بوضوح عن نظيرتها الأميركية: هي أمدّت كييف بالسلاح، خاصة بمسيّرات «بيرقدار»، لكنها رفضت فرض عقوبات على موسكو، وتلعب دوراً نشيطاً في الوساطة بين الطرفَين.
هذا بالنسبة لحلفاء واشنطن، أمّا خصومها، فإن مواقفهم تتراوح بين الدعم العلني أو الضمني لروسيا. لكلّ دولة من دول الجنوب دوافع خاصة تفسّر تموضعها خارج المعسكر الذي تقوده الولايات المتحدة في مجابهتها المحتدمة مع منافِسيها الاستراتيجيين في روسيا والصين، وفي تنمية شراكات متعدّدة الأبعاد معهما، غير أن المحصّلة النهائية لمثل هذه التموضعات والشراكات، تشكّل منعطفاً حاسماً في مسار العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فعجز الإمبراطورية المنحدرة عن ضبط الحلفاء، ناهيك عن التصدّي الناجح للأعداء، يشي بتفكّك منظومة السيطرة الغربية على المعمورة، وبداية مرحلة طويلة من الصراعات الدولية والإقليمية في بقاع مختلفة منها، ستحدّد مآلاتها شكل النظام الدولي الذي سيعاد بناؤه. ولا شك في أن للفوضى العالمية الآخذة في الاتّساع، تداعيات أكيدة ووازنة على صراعنا المديد مع المشروع الاستيطاني الصهيوني.
حالة الفوضى
الصراع بين الدول الكبرى ليس صنواً للفوضى بالضرورة. ففي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، انقسم العالم إلى معسكرَين، ضمّ كلّ منهما مجموعة من الدول والأحزاب والتنظيمات ذات الخلفيات الأيديولوجية والسياسية المتعدّدة، ما أدى إلى نشوء نظام القطبية الثنائية. كانت للقطبَين الرئيسيَن، أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، قدرة تأثير وضبط تختلف درجاتها مع أطراف معسكرَيهما، التي تمتّع بعضها بهامش استقلالية نسبية. غير أن مَن يستعرض الحروب والنزاعات التي دارت في تلك المرحلة، سيجد أن كلّاً من القطبين امتلك إمكانية التدخّل في مسارها، و»إقناع» حليفه المحلي أو الإقليمي بالتصعيد أو بتخفيض حدّة الصراع في فترات معينة، وبـ»اقتراح» حلول لهذه الصراعات، تنسجم مع الأجندة الدولية للقطب المعنيّ. فالاتحاد السوفياتي الذي دعم الدول العربية والمقاومة الفلسطينية في صراعها مع الكيان الصهيوني، ساهم في إقناعها بأن يكون هدفها النهائي هو التسوية السلمية على قاعدة القرارات الدولية، وإن لم تكن هذه المساهمة هي العامل الوحيد الذي يفسّر قبول الأطراف الرسمية العربية والفلسطينية بهذا السقف السياسي. الأمر نفسه ينسحب، وإن بأشكال ودرجات مختلفة، على حروب ونزاعات وقعت آنذاك، وسعى كلّ من القطبَين إلى توظيفها في إطار استراتيجيته العامة، أو ضبطها لمنع اتّساعها واستعارها.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، حاولت الولايات المتحدة فرض نظام الآحادية القطبية، وشنّت لهذه الغاية حروباً عدوانية مدمرة، غير أنه بات من الواضح أنها فشلت في ذلك تماماً. ما نشهده اليوم هو مجابهة بين معسكر أطلسي بقيادة الولايات المتحدة، ومحور روسي – صيني أصبحت أوكرانيا إحدى ساحاته. لكن بقيّة العالم، أي بلدان الجنوب، وبينها قوى إقليمية وازنة، اختارت «عدم الانحياز» إلى أيّ من الطرفين. أصبح «عدم الانحياز»، ولو الظرفي، بالنسبة لهذه البلدان، أسهل ممّا كان عليه في فترة تشكّل المنظّمة التي تحمل هذا الاسم، والتي تعرّض أعضاؤها لضغوط هائلة، من قِبَل الولايات المتحدة أساساً، لحملهم على الانحياز أو إسقاط أنظمتهم الوطنية. وعلى رغم احتفاظ عدد من بلدان الجنوب بتحالفاتها الدولية، فإن هامش استقلاليتها قد اتّسع، وأضحت تعطي الأولوية لأجندتها الخاصة، حتى ولو لم تتقاطع مع أجندة الحليف الدولي. يقول فرانسيس فوكوياما، في مقابلة مع «ذي نيو ستايتسمان»، بأننا «ربّما نرى نهاية نهاية التاريخ». الفراغ الناجم عن تراجع الهيمنة الأميركية، وعدم وجود قوى دولية مرشّحة حالياً للحلول في مكانها، في منطقتنا وفي مناطق أخرى، ستعمل القوى الإقليمية على تعبئته من خلال النزاع في ما بينها أو التوصّل إلى تفاهمات وترتيبات.
أولوية فلسطين
منذ أن أدرك الحلفاء الإقليميون للولايات المتحدة قرارها «التخفّف من أعباء الشرق الأوسط»، وهو توجّه سيتعزّز في سياستها الخارجية في سياق حربها بالوكالة مع روسيا في أوكرانيا، وهم يعملون على بناء تحالف «عربي» – صهيوني في مواجهة قوى المقاومة في الإقليم، وفي القلب منها إيران. هذه هي الغاية الحقيقية لـ»اتفاقية أبراهام»، ولقمم شرم الشيخ والنقب. غير أن الإمارات، وهي الطرف الرئيس الذي اشترك في صياغة هذا المشروع أيام إدارة دونالد ترامب، شرعت من جهة أخرى في السعي لتطبيع علاقاتها مع إيران، وتطوير المصالح المشتركة معها. السعودية لم تشارك حتى الآن رسمياً في التحالف المذكور، لكن وجود البحرين تمّ بعد ضوء أخضر منها. إلّا أن ولي عهدها دعا بدوره إلى إقامة علاقات حسن جوار مع إيران.
تعلم جميع أطراف هذا التحالف هشاشته، وفي مقدّمتها الكيان الصهيوني. وتعلم قوى المقاومة ذلك، وفي طليعتها الشعب الفلسطيني، تغيُّر أولويات القوى الغربية، وانشغالها بمواجهات استراتيجية كبرى مع روسيا والصين ستزداد حدّة في المدى المنظور، وتستتبع تراجع أولوية صراعات المنطقة على أجندتها. هذا ما يثير ذعر قادة الكيان، وما يفسّر التقاط أبناء الشعب الفلسطيني وتنظيماته المقاوِمة لهذه الفرصة وتصعيد العمل المقاوم. انفجار انتفاضة شعبية عارمة ضدّ الاحتلال مدعومة بالنار، نار البنادق والصواريخ، سيفرض التراجع على العدو، وسيقلب الطاولة على مشاريع التحالفات الخيانية. الفوضى العالمية الراهنة هي السياق الأنسب لفرض أولوية فلسطين على جدول أعمال الجميع، عبر جولة جديدة من المجابهة تبني على ما حقّقته معركة «سيف القدس» المجيدة.
صحيفة الأخبار اللبنانية