نوافذ للحوار ابراهيم بطوط: الفاشية الدينية أشنع من الفاشية العسكرية

حاورته فيكي حبيب

لم يتخلّص ابراهيم بطوط من الندوب التي علّمت في جسده خلال عمله مراسلاً حربياً. ينظر إليها ويتذكر تجواله في ساحات القتال. «هذه ندبة تعود لعام 1988 من سلاح الأمن المركزي في مصر». و «هذه ندبة تلقيتها من قناص في البوسنة عام 1993»، و «هذه خلال تغطية حرب…»…
جروح كثيرة يُصرّ بطوط على أنه شُفي منها تماماً، لكنّ جرحاً واحداً لا يزال معلّماً في نفسه: جرح شقيقه الذي خرج شخصاً آخر بعد اعتقاله أيام نظام مبارك. جرح قرر أن يتكلم عنه بطوط على الشاشة الكبيرة، علّه يُشفى منه، فكان فيلم «الشتا اللي فات» الذي افتتح عروضه العالمية في مهرجان البندقية، قبل أن ينتقل الى القاهرة ودبي وسواهما من المدن والعواصم.
«الحياة» التقت بطوط في مهرجان دبي وسألته عن الفيلم وعلاقته بثورة «25 يناير» بين مواضيع أخرى.

> انتقادات كثيرة طاولت أفلام الثورة من دون أن يُستثنى منها «الشتا اللي فات». ما تعليقك؟
– الفيلم ليس عن الثورة، بل هو عبارة عن مكنونات كثيرة ظلت ساكنة في داخلي، ولم يكن ممكناً أن تخرج الى الملأ قبل «25 يناير». رويت القصة لأتخلص منها بعدما أرهقتني كثيراً. هي قصة شقيقي الذي تعرّض للاعتقال السياسي والتعذيب. قصة عايشتها بكل آلامها، وكان صعباً أن أحكيها في ظل النظام السابق خوفاً من أن أعرّض شقيقي للاعتقال مجدداً. أما الثورة فكانت في الفيلم بمثابة إبرة الساعة التي تحدد الزمن بين خطاب مبارك الأول والثاني والأخير.

> ألم تخش أن يأخذ بعضهم عليك هذا الأمر، ويعتبر أن في الفيلم إقحاماً للثورة؟
– صوّرت الثورة لأنني أحببتها جداً. عشت عمري كله وأنا على الهامش، ولكن فجأة، ومن دون أي توقع من أحد، التقيت مع كل المهمشين في موقف واحد. فرحت جداً بالتحرك، ولكن سرعان ما عدت ووجدت نفسي على الهامش مرة اخرى.

> «الشتا اللي فات» هو فيلم عن الخوف. هل تحررت من الخوف بعد الثورة؟
– أبداً. أرى الخوف يومياً، أحترمه، وأدرك جيداً كيف أتعامل معه. أعرف كيف أعيش وأنا خائف وكيف استخدم كل طاقاته. أحد أكبر مخاوفي هو أن أُزجّ في السجن. وكان ممكناً أن يحصل هذا في أي وقت. قبل الثورة، كنت أصنع أفلاماً ضد النظام السابق. الآن أرى أن الفاشية الدينية أشنع من الفاشية العسكرية، فهذه الأخيرة تعمل على مستويين فقط، أما الفاشية الدينية فتعمل على مستويات عدة. نعم أنا خائف الآن، ولكنني اعرف كيف أتعامل مع هذا الخوف.

التحدي الجديد
> واضح أنّ حجم التحدي كبير جداً على السينمائيين المصريين في ظل حكم «الأخوان»؟
– كلما كان التحدي أكبر، كنت مستمتعاً أكثر. بطبيعتي لا أحب أن اكون في موقف السينمائي السويسري الذي يعيش في جنيف ويراقب البط في البحيرة، بل على العكس أسعى وراء التحديات.
> رسمت شخصية المعتقل السياسي التي برع في تجسيدها عمرو واكد بطريقة نالت ثناء كبيراً. هل استعنت بأبحاث نفسية حول الشخصية المهزومة-المضطربة أو استقيت معلوماتك من بعض الشهادات؟
– كلا، لم أكن في حاجة الى ذلك، ففي نظري معاناة روح واحدة تعادل معاناة مليون روح. العذاب واحد والقهر واحد والألم واحد. هي قصة اعرفها جيداً، وكان سهلاً جداً بالنسبة إلي ان احوّل معاناة شقيقي الى الشاشة.

> يسير الفيلم على خطّين متوازيين بين اندلاع ثورة 25 يناير، وفترة اعتقال بطل الفيلم في 2009. لماذا اخترت هذا العام تحديداً؟
– اخترت 2009 بسبب أحداث غزة. يومها كنت أجلس في منزلي وأتابع ما يحدث وأنا أبكي طوال الوقت. أنظر الى ضحايا المجازر ولا أصدق ان نظام مبارك يحاصرهم من دون أي حس إنساني. ولا شك في أن مبارك دفع ثمن موقفه هذا بين مواقف أخرى.

> في الفيلم توازنات عدة، منها حضور ما يعرف في مصر بـ «حزب الكنبة»؟
– لم أشأ أن أُدين أحداً، والدليل المشهد الذي صوّرته لشخصيات من «حزب الكنبة» تركت كنباتها ونزلت الى ميدان التحرير لتشارك في الثورة.

> لكنّ هناك إدانة واضحة لنظام مبارك؟
– إن تابعت منطق ضابط أمن الدولة في الفيلم ومنطق حسني مبارك، فستجدين أن للخير منطقه وللشر منطقه، وأن الاثنين مقبولان. وظيفتي ليست أن أُدين احداً. ولست قاضياً لأفعل ذلك. أنت كمشاهدة يجب أن تشاهدي الاثنين. وأنا متأكد من ان هناك حلاً خارج الشر والخير، الصح والخطأ. نحن هنا امام نزاع كلاسيكي قديم، لا يرقى الى تطورنا الاجتماعي والثقافي الذي يمكن ان نصل إليه. هناك ما هو أبعد من ذلك، ونحن الآن ندور في الدوامة ذاتها مع «الإخوان المسلمين». يجب أن نجد الحل خارج الإطار والمنظومة. أما الفيلم فمتوازن جداً، إذ لا يعطيك شيئاً لا تعرفينه، فضلاً عن ان غالبية الأحاسيس معروفة سلفاً. أردت ان يمنح هذا التوازن المشاهد الفرصة لأن يذهب خارج صراع الخير والشر ويجعله يفكّر بالحل ويطرح الأسئلة على نفسه. يُضاف الى هذا أن لا وجود لأي نهاية مقفلة في الفيلم، حتى الثورة التي شاهدناها في النهاية، تبعها سقوط ضحايا وسلسلة أرقام أظهرت ان شيئاً لم ينته. من هنا أقول إن فيلمي ليس عن الثورة التي قد يتخيّلها المشاهد وهو داخل الى صالة السينما.

> ألهذا السبب رسمت شخصية ضابط أمن الدولة من دون عنف ظاهر؟
– العنف في شخصية ضابط أمن الدولة مستتر ومكبوت. الضابط لم يقم بأيّ تصرف عنيف، بل كانت لديه دوافعه. وهو فعلاً وطني ويريد أن يحافظ على بلده. هو ليس شريراً لأنه سادي، بل لأنه يعتقد انه يتصرف بما يخدم بلده. ويبدو ذلك جلياً في حواره مع «عمرو» حين يقول له: «لا تظن أن اسرائيل عدوتنا… عدونا الأول هو الجهل»… وهذا هو منطقه.

> يؤخذ على الفيلم، المباشرة في بعض مشاهده، خصوصاً مشهد المذيعة «فرح» التي تنقلب على النظام بعدما كانت ضمن المنظومة؟
– لا يهمّ إن كان المشهد مباشراً، المهم صدقيته. ولا أخفي عليك أنني أبكي كل مرة اشاهده. وبصراحة أنا أقيس كل شيء على نفسي. من هنا أقدر شجاعة «فرح» حين عرّت نفسها وتخلصت من اسلحة الدفاع وجلست أمام الكاميرا وقالت للمشاهد المصري: أعتذر منك، لقد استغللتك واستعملتك، لكنني تغيّرت.

> في الفيلم قتامة في الألوان وانغلاق في المكان بما يتناسب وحالة البطل النفسية بعيداً من انتفاضة محيطه على واقعه بالنزول الى الشارع والمطالبة برحيل الرئيس. لماذا؟
– أردت أن أجعل المشاهد يجلس معي في غرفة «عمر»، وبدهي أن يتسرب إليه شعور بعدم الارتياح والقلق، انطلاقاً من اللقطات التي اخترت ألا تكون واسعة. فأنا أعمل على المشاعر والروح والقلب، ولا أحب التنظير الفكري. هناك مشاهد معبّرة جداً في الفيلم مثل مشهد «عمر» و «فرح» وهما يسيران معاً قبل أن يفترقا، ومشهد موت والدة «عمر» وموت زهورها وإصرار «عمر» على ريّها على رغم إدراكه أنها يابسة. أدرك جيداً حجم العاطفة التي أنقلها الى المشاهد، وفعلت هذا عمداً. هناك عبارة للنفّري المتصوف تقول: «أحدثك لترى، فإن رأيتَ فلا حديث». أمام هذا الواقع، كثيرون اعتبروا انني خذلتهم بعدما شاهدوا الفيلم لأنهم دخلوا وفي ذهنهم عمل عن الثورة، لكنّهم لم يجدوا مبتغاهم. كل ما يهمني هو المزاج الذي أريد ان اخلقه. انسي موضوع القصة، وماذا يقول الفيلم؟ وأين؟ السينما بالنسبة إلي ليست على الإطلاق أداة لإخبار قصة.

> ما هي السينما إذاً؟
– لا أدري. لكنها ليست أداة لإخبار قصة. هي فن مقدس يحاول الناس اكتشاف ماهيته، ولا مشكلة في ذلك، فليحاولوا قدر ما شاؤوا، ولكن من دون ان يضعونها في إطار أو علبة.

الفيلم كترياق
> لماذا تصنع أفلاماً؟
– لأُشفى. في داخلي طاقة كبيرة يجب أن أخرجها لئلا أجنّ. أؤمن بتبادل الطاقة، وبقدرة المرء على توجيهها الى الطريق التي يريد. لا أقول هذا انطلاقاً من تضخم الأنا، بل من واقع ان السينما هي الأداة الأقوى في تبادل الطاقة، مثلما الأهرامات هي الأداة الأكثر فاعلية في توليد الطاقة. خذي مثلاً الإنسان الذي بنى هذه الأهرامات والى أي مدى هو عظيم بحيث بناها بعيداً من دون ان يفرض علينا بنيته. أعطانا الحظ لننظر إليها، لكنه لم يبنها فوق رؤوسنا مثلما تفعل العشوائيات. إن انتبهت الى الفرق بين الاثنين فستجدين ان السينما هي الى حد ما هكذا.

> لماذا اخترت أن تصنع أفلاماً مختلفة عن السائد في السينما المصرية؟
– ببساطة لأنني لا أحب أن أكون ضمن شلّة. كنت دوماً وحيداً ولم اجد نفسي يوماً ضمن مجموعة، وإن وُجدت في أحد الأيام فسترين كيف سأبتعد.

> لكنك اليوم عنصر بارز في السينما المصرية المستقلة؟
– أنا ممتن لما لديّ في هذه الحياة، ولا أريد أن أصنع أفلاماً يتوقع الناس مني صنعها. أقفلت هاتفي منذ ســـنة ونصف سنة، ولا علاقات لديّ مع الوسط الفني لأنني لا أريد ان أنتمي الى جماعة.

> ألا تفكر بالجمهور وأنت تحضّر لفيلم ما؟
– أنا الجمهور. لكنّ هذا لا يعني انني لا أحب أن يشاهد الجميع أفلامي. بل على العكس انا أعمل على ذلك واعتقد بأنني من الذكاء بحيث أتمكن من أن أقدم لهم ما يريدون مشاهدته.

> هل تبحث اليوم عن معادلة بين السينما المستقلة والسينما التجارية؟
– أبداً. عندما تطاردني فكرة ما، أبدأ العمل عليها لأترجمها الى قصة تتحول الى فيلم. ما هو نوعه؟ وهل هو متوازن؟ هذان سؤالان لا أكترث لهما. كل ما يهمني هو التركيز والتأمل والجلوس وحدي أياماً، لأصبح قادراً على تصفية ما يجب وضعه في الفيلم وما يجب حذفه انطلاقاً مما أعرفه. حين تحققين فيلماً انطلاقاً من خبراتك السابقة تكونين في حالة إعادة إنتاج نفسك. فأنا مثلاً أجيد التصوير، فإن اتكأت على هذا الأمر في فيلمي المقبل، فأكون كمن يعيد إنتاج ما حققه في السابق. وعندها يبدأ الملل بالتسلل. ولهذا إن شاهدت أفلامي الثلاثة السابقة («إيتاكا» و«عين شمس» و«حاوي») فستلمسين تشابهاً ما، لكنّ كل فيلم مختلف عن الآخر.

> لماذا كان هناك إصرار على عرض «الشتا اللي فات» في افتتاح مهرجان القاهرة على رغم كل اللغط الذي شاب الدورة الماضية؟
– الفيلم حقق على بعد أمتار من مكان انعقاد مهرجان القاهرة. وبطبعي اقدّس الناس المنسيين. هناك اشخاص دفعوا حياتهم في سبيل الثورة وهؤلاء هم شعبي وأنا اعرفه جيداً. قد لا أعرف أسماءهم لكنهم… (يجهش بالبكاء).

> دموعك تعبّر عن حلم لم يكتمل بعد؟
– ما ربحناه من الثورة هو وقوفنا جنباً الى جنب كمصريين بصوت واحد يقول: «يسقط يسقط حسني مبارك». ولكن ماذا بعد؟ ولماذا لم نقل هذا قبل يناير 2011؟ وكأننا فضحنا أنفسنا، وبصراحة لم يعد ينفع الكذب. والسؤال الأهم: ما الخطوة التالية؟ وهذا ما يجعلنا امام مرحلة مهمة.

> ما التالي في سينما ابراهيم بطوط، وهل سيكون «علي معزة» فيلمك المقبل؟
– جاءتني فكرة «علي معزة» قبل 4 سنوات، وهي تدور حول شاب يغرم بمعزة ثم لا تلبث أن تفارق الحياة. كتبت هذا الكلام في 2008، وكانت الفكرة الأساسية تنطلق من قصة شاب (كان علي صبحي مرشحاً للعب الدور) ينزل وسط البلد ليأكل كشري مع صديقته، فيقترب من تظاهرة وتقتل رفيقته في إطلاق نار. كان المقرّبون مني يرون أن الاشتباك بالنار في وسط البلد غير منطقي. لكنني أصررت على موقفي، وفجأة اندلعت الثورة، ونزل بالفعل علي صبحي الى ميدان التحرير وماتت صديقته خلال التظاهرات، فتحوّل ما كان متكوباً الى واقع. أنهيت السيناريو ودخلت في المنظومة الكلاسيكية للحصول على تمويل، وحصلت على 30 في المئة منها، لكنني لن أحقق هذا الفيلم حتى لو صارت لديّ موازنة كاملة.

> لماذا؟
– تغيرت جذرياً. ما كنت اريد أن أفعله قبل 3 سنوات لم يعد يهمني الآن، وخلاف ذلك هو ضحك على النفس. لم أعد الشخص الذي كنت عليه قبل سنتين. خلال الأحداث، نزلت من بيتي في الزمالك ومشيت في التحرير وشاهدت الدماء في الشوارع والناس تفقد حياتها، هل يعقل ألا أتغيّر بعد هذا؟ اهتماماتي تغيرت وما اريده في السينما تغير. أريد ان أشاهد عنفاً لا مشاهد حب. هناك اليوم خارجون من السجون يريدون أن يحكموا الى الأبد. قد أفهمهم لكنني لا يمكن أن أوافقهم. هل يعقل أن احقق فيلماً عن المعزة في هذه الظروف؟ للأسف، مثلما هناك أفلام تجارية، هناك أيضاً استعمار ثقافي يتمثل في صناديق الدعم والإنتاج المشترك.

مشاريع «ماكدونالدز»
> لكن، ألا ترى أن الإنتاج المشترك وصناديق الدعم ساهما في دعم السينما العربية؟
– تُحوّل هذه الصناديق أفكار الشباب النضرة الحرة الى مشروع أشبه بوجبة «ماكدونالدز». يطرح صاحب المشروع فكرته الطازجة، ثم لا يلبث أن يبدأ بالتنازلات بما يتلاءم وأفكار صاحب التمويل.

> هل تستطيع السينما العربية الصمود من دون هذه الصناديق؟
– أراها قادرة على ذلك، والدليل أنني صنعت أفلاماً بـ6 آلاف دولار فقط.
> ولكن ألا تحلم بأفلام بموازنة عالية؟
-عندما قالوا لي يجب ان تصنع أفلاماً بموازنات عالية كتبت «علي معزة»، ولكن لا أريد أن أمارس البغاء، ولن يعجبني ذلك.

> كيف تقوّم أفلام الثورة؟
-أحاول قدر الإمكان أن أحمي عيني مما أشاهده، فأنا حريص جداً على نظري. ولهذا لا أشاهد أفلاماً كثيرة، علماً ان هناك أعمالاً اتوق الى مشاهدتها لكنني لا أفعل، لأنني كلما شاهدت افلاماً اكثر أصبت بالعدوى وانضممت الى حلقة الشلل.

> استُقبل «الشتا اللي فات» بترحاب في مهرجان البندقية. حدثنا عن التجربة؟
– كانت تجربة جميلة جداً، خصوصاً أن البندقية شهدت العرض العالمي الأول للفيلم. وسعدت كثيراً بتجاوب الجمهور. صفقوا لأكثر من 5 دقائق… (يبكي قبل أن يكمل). أحزن لأنه كانت لدينا كمصريين فرصة لنعيش حياة أفضل.

 

صحيفة الحياة اللندنية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى