نوافذ للحوار الشاروني: دور المثقف أصبح هامشيًا رغم محاولات التغيير
نوافذ للحوار
الشاروني: دور المثقف أصبح هامشيًا رغم محاولات التغيير
الجيل الجديد يعاني من فراغ روحي وفكري، والكتابة لعبتي التي أتسلى بها ومكتبتي هي ملعبي الذي أقضي فيه معظم وقتي ألعب.
يوسف الشاروني .. واحد من رواد الأدب في مصر، صدرت له العديد من المجموعات القصصية منها: العشاق الخمسة 1954، رسالة إلى امرأة 1960، الزحام 1969، حلاوة الروح 1971، مطاردة منتصف الليل 1973، آخر العنقود 1982، الأم والوحش 1982، الكراسي الموسيقية 1990، المختارات 1990، المجموعات القصصية الكاملة "جـ1" 1992، "القاهرة" المجموعات القصصية الكاملة "جـ2" 1993، "القاهرة" الضحك حتى البكاء 1997، أجداد وأحفاد 2005، ومن الروايات: الغرق 2006.
هكذا تعددت إبداعاته ما بين القصة القصيرة، والنقد والترجمة، ومؤخرًا الرواية. وقدم أكثر من خمسين كتابًا دافع فيها عن التراث الأدبي العربي، وناقش المناهج النقدية.. كان آخرها كتاب "الحكاية في التراث العربي" الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر، رد فيه على كل من يرغبون في محو هوية التراث الأدبي والشعب العربي. حصل على جائزة الدولة التقديرية عام 2001، ونال جائزة الكاتب العربي العام 2011 .
• صدر لك مؤخرًا عن المجلس الأعلى للثقافة كتاب "الحكاية في التراث العربي"، وقد أعدت نشر بعض القصص التي نشرتها من قبل، فلماذا قررت نشرها مرة أخرى؟
ـ أصدرت هذا الكتاب؛ للرد على الذين يقولون إن العقلية العربية لا تعرف القصة والأدب، وأن بعض الأدباء العرب لا يعرفون الدراما، لذلك قررت إصدار كتاب يشمل أعمالي الأدبية على مدار خمسين عامًا ويضم أعمالًا تراثية، وتحدثت فيه عن تسعة أشكال للقصص الشعبي، واهتممت بالنص الديني الخبري في قصة "الحب العذري"، والقصة الخبرية لها أصل واقعي، وتسمح بالحذف والإضافة، وهي على عكس الفنتازيا مثل "ألف ليلة وليلة"، وقصص الأمثال والحيوان، والقصص الفلسفية "قصة بن مزار"، والسير الشعبية "عنترة، الظاهر بيبرس"، و"نوادر جحا، قرقوش، أبو نواس".
وفي أول عنوان للكتاب "كيف يتخلص البطل" تحدثت عن كيفية الخلاص داخل القصص العربية، فقد يكون الخلاص في الحب "قصة علي الزيبق" عن طريق قوى خارقة، أو بتدبير وتفكير عقلي مثل قصة شكاوي الحيوان من ظلم الإنسان المشهورة بـ "إخوان الصفا"، حيث ذهب البشر إلى مملكة الحيوانات عندما تحطمت سفينتهم، فاستغل البشر الحيوانات، فاشتكت الحيوانات لملكهم من البشر، فأمر الملك بعمل محاكمة قارن فيها بين ميزات البشر والحيوان.
• أسلوب التناص
• اتهمك النقاد بأن قصصك مأخوذة من عالم نجيب محفوظ وعن أعمال الأدباء السابقين عليك، فأخذت شخصية زيطة وعملت قصة "زيطة صانع العاهات"، وأيضاً شخصية عباس الحلو من زقاق المدق.
ـ النقاد يقولون ما يشاءون، أنا لم أقدم جديدًا في الواقع الأدبي، وهذا يسمى أسلوب "التناص"، فقدمت تناصًا مع "جون بنيان" من خلال قصة سياحة المؤمن التي كتبها في القرن السابع عشر، وعبر فيها عما يتعرض له المؤمن من صراعات للوصول إلى المدينة السماوية، فكتبت قصة "سياحة البطل"، وصورت من خلالها رحلة الإنسان العادي في البحث عن الحب والعمل والسكن.
فالمبدع يستوحي من مصادر كثيرة، فيمكنه أن يسمع لحديث السيدات ويأخذ منه قصة، أو حديث أحد رواد المقاهي، فالحياة مليئة بالوقائع التي يمكن أن تتحول إلى عمل قصصي، أما بالنسبة لأعمال محفوظ "زيطة، عباس الحلو" بالفعل أخذتهما من رواياته، ولكني أضفت عليهما جديدًا، ففي بداية قصة زيطة كتبت "صنع يصنع في صناعة وهي مصنوعة، وصنع المصنع السيارات، وصنعت المصانع القنابل، وعم كامل يصنع البسبوسة، وصنع المسيح المعجزات، وصنع زيطة العاهات"، فقارنت بين المسيح الذي يشفي المرضى منذ عشرين قرنًا، وزيطة الذي يصنع المرض والعمى والعرج في القرن العشرين، وفي نهاية القصة طالبت بوضع تمثال لزيطة على رأس زقاق المدق، وزيطة هذا نجده اليوم في كل مكان حولنا، وفي عام 1949 نشرت في مجلة الأديب قصة "مصرع عباس الحلو"، وقدمت فيها ما لم يكتب عنه محفوظ، فسألت عن الذي قتل عباس الحلو هل هي حميدة التي أحبها ووجدها مع القوادين والإنجليز، وفي نهاية القصة توصلت إلى القاتل وهم من صنعوا الخمور ووضعوها في الحانة يوم مصرع عباس الحلو، وأخذ هذه الشخصيات من أعمال محفوظ لم يضايقه، وكنا أصدقاء ونعرض أعمالنا على بعضنا البعض.
• الجوانب السلبية
• لماذا اتجهت في أغلب أعمالك القصصية إلى الجوانب السلبية في المجتمع؟
ـ بالفعل أردت إظهار السلبيات، وبكشفي لتلك السلبيات أعطيت إنذارًا، وتنبأت بقضايا مهمة قبل حدوثها، وبعد نشر رواياتي ظهرت تلك القضايا كما عرفتها قبل حدوثها، ففي رواية "العشاق الخمسة" 1984 أطلقت إنذارًا بهجوم العدو علينا من خلال الأسلوب التعبيري الداخلي للإنسان وليس الخارجي.
وفي قصة "الزحام" التي نشرت في يناير 1952 تنبأت بثورة يوليو، من خلال الساعي الذي يعمل في مكتب حكومي، وهو فقير جدًّا يذهب إلى الإسكافي ليصلح له حذاءه مرات كثيرة، ليخبره الإسكافي أن الحذاء لا يمكن إصلاحه مرة أخرى، وبعد ستة أشهر تغير الحذاء وتأتي الثورة لتغير الأوضاع.
ونفس الشيء حدث مع نكسة 67 في قصة "نظرية الجلدة الفاسدة"، فشبهت الإهمال في جلدة الصنبور بالإهمال في المجتمع، وفي نهاية القصة وجهت رسالة دعوت فيها إلى ضرورة تنظيم المجتمع في كل قطاعاته لتلافي الهزيمة، أما قبل الانتصار الجزئي في 73 تنبأت بقصة "الأم والوحش"، فالأم هي بلدنا والوحش هو العدو الإسرائيلي الذي يرغب في قتل أبنائها، فدافعت عنهم بفرع شجرة جميز، فالتهم الوحش ثلاثة أصابع من يدها، ولكنها قاومت من أجل أطفالها وبعدها حدث نصر أكتوبر 1973.
• النقد الأدبي
• تعددت إبداعاتك الأدبية بين النقد والقصة ومؤخراً الرواية، فأي مجالات الأدب أقرب إليك؟
ـ النقد الأدبي هو أكثر الفنون التي أحببتها، فلديَّ أكثر من 62 دراسة نقدية عن الأدب الروائي والقصصي في العالم العربي، وتُرجموا إلى لغات أجنبية عديدة، وأقرب كتاب لي كتاب "الحب والصداقة في التراث العربي" صدر عن دار المعارف، وقدمت فيه دراسة عن الحب في الكتب العربية، وشعر الغزل والتصوف، ويعد دراسة مبكرة لعمل فني حديث، فأثبت فيه أن الأنبياء والرسل أحبوا، وقدمت علاقات الصداقة في التراث العربي. وتأتي القصة في المرتبة الثانية من الفنون المقربة إليَّ، فاعتمدت في القصة القصيرة على الخروج على القواعد التقليدية في الأدب، فمزجت بين القصة والحلم والتكثيف، فالواقع داخل القصة ليس واقعًا؛ لأن الشخصية الواحدة تجمع صفات شخصيات عديدة جمعتها من خلال لقاءاتي مع أشخاص أحببت فيهم بعض الصفات.
• تحقيق روائي
• لماذا اتجهت لكتابة رواية "الغرق" بعد رحلتك مع النقد والقصة القصيرة؟
ـ لم أقصد أن أكتب رواية، ففي البداية رغبت في كتابة قصة، ولكن عندما توفرت الوقائع حولتها لرواية، ولكن لا يجب أن نطلق عليها رواية؛ لأنها تحقيق روائي اعتمدت فيه على الأخبار الصحفية، وأدرجت في نهاياتها قائمة بمصادري، وهي تحكي عن امرأة مصرية تعمل في الخارج، أرادت أن تعود إلى وطنها بعد ثلاثة أشهر من سفرها لرؤية أطفالها، وتحجز على سفينة "المحروسة" التي طُرد عليها الملك فاروق من مصر، وتحمل حقائبها على السفينة، ولكنها لم تسافر ويحدث غرق السفينة، وبعدها تعود إلى القاهرة، لتجد أهلها قد وزعوا ميراثها لأنهم علموا بموتها غرقًا، فتحاول إثبات أنها ما زالت على قيد الحياة.
• ما منهجك في نقد الأعمال الأدبية للكتاب الآخرين؟
ـ منهجي النقدي يعتمد على ثلاث خطوات، ففي الخطوة الأولى أقارن العمل الذي أقوم بقراءته بأعمال الكتاب السابقة؛ لكي أحدد مدى تطور الكاتب، ثم أقارن العمل بأعمال كُتَّاب معاصرين، فهذا العصر يفرض نوعًا من الاختلاف ين كتابات الشباب، وفي المرحلة الأخيرة أقارن العمل بالأعمال العالمية مقارنة دقيقة.
• كيف تنظر لدور المثقف العربي اليوم؟
ـ اعترف بأن دور المثقف في الوقت الراهن أصبح دورًا هامشيًا، ورغم محاولات التعبير التي يقوم بها هذا المثقف، إلا أنه فشل في التغيير لعدة أسباب أهمها سيطرة ثقافة الصورة على مجريات العصر مما وضع القراءة في منطقة محدودة.
وبالاطلاع على مختلف المطبوعات من صحف ومجلات وكتب سنجد أن هناك محاولات عديدة لوضع حلول لكثير من أزماتنا المعاصرة، وأهمها الفراغ الفكري والروحي الذي يعاني منه الجيل الجديد، إلا أن كل ذلك لا يتعدى كونه مجرد كلام في ظل الانفصال الحاد بين الشباب وهذه المطبوعات.
هذا في الوقت الذي تملأ فيه وسائل الإعلام الأخرى "المرئية والمسموعة" عقول الشباب بمواد تدغدغ مشاعرهم وتسهم في سلبيتهم، حيث تفرد هذه القنوات ساعات إرسالها لمواد لا قيمة لها، ولا تتيح فرصة للمثقفين أن يصلوا إلى المتلقين لا بعرض موادهم الجيدة فحسب بل وبحديثهم أيضًا، مما جعل هناك فجوة تتسع يومًا بعد يوم بين المثقفين والشباب، ودور المثقف هو التوجيه، وهو قادر على ذلك لكن مشكلته أصبحت: كيف يصل بصوته إلى الآخرين؟! وحتى إذا تجاوزنا فكرة التواصل ووصلنا إلى أن المثقف قدم من الحلول الكثير للخروج من مآزق السلبية المسيطرة على التفكير اليوم، وقدم هذا المثقف إجابات على العديد من الأسئلة الشائكة وحدد مواضع الأزمة.. هل بعد كل هذا سيؤخذ برأيه أم أن كل ذلك سيتحول إلى مجموعة من النظريات؟ فهناك أزمة أكبر، وهي تلك الفجوة المتسعة بين النظرية والتطبيق!
• الأدب العماني
• لك كتاب كامل عن الأدب العماني.. لماذا الأدب العماني بالذات؟
بحكم أنني سافرت إلى هناك لفترة طويلة، وكنت أعتقد أنه ليس هناك حياة أدبية، فاصطحبت بعض الكتب معي من مصر لقراءتها هناك، لكنني ما لبثت أن اكتشفت أن هناك ما أسميته في ذلك الوقت بكنز من الثقافة العمانية، وجدت كتبًا في التراث العماني في الفقه، والشعر، والتاريخ، فاهتممت بجانبي الشعر والتاريخ، ثم كانت هناك حركة أدبية بازغة بعد ما يسمى بالنهضة التي قادها السلطان "قابوس" عام 1970، قبلها كانت البلاد تنتمي إلى العصور الوسطى، لكنه أرسى أرضية لقيام نهضة ثقافية عن طريق إنشاء مدارس، فلم يكن بالسلطنة أكثر من ثلاث مدارس ابتدائية قبل عام 1970، فانتشرت المدارس والجامعات مما خلق جمهورًا فيه المبدعون، وفيه القراء، وقد تتبعت هذه الحركة على مدى أكثر من عشرين عامًا، ودونتها في كتابي "في الأدب العماني الحديث" ، وهو أول كتاب يتحدث عن الحركة الأدبية هناك لاسيما في جانبي القصة القصيرة والرواية مع إشارة إلى الشعر.
• أهمية الكتابة
• ماذا تعني الكتابة بالنسبة لك بعد هذه التجربة الطويلة؟
الكتابة لعبتي التي أتسلى بها تزكية للوقت مثل الأطفال، أو مثل الكبار الذين يفضلون تزكية وقتهم بلعبة ما، ومكتبتي هي ملعبي الذي أقضي فيه معظم وقتي ألعب، وغيري يجمع الثروات أو يمارس قتل الآخرين، أما أنا فما زلت أفرح فرحتي الأولى عندما أرى قصة لي منشورة في مجلة أو جريدة أو كتاب مطبوع، وأكتئب عندما أفتح الجريدة أو المجلة ولا أرى قصة أنتظر نشرها. بالتأكيد أشعر بالرضا عما كتبته؛ لأني قدمت أعمالًا غير مسبوقة في التاريخ، وتنبأت بما لا يستطيع غيري من الكتاب التنبؤ به، فالكتاب عندي ضرورة مثل الغرائز الأساسية، فهو كالمأكل والمشرب، ولا يمكنني أن أتوقف عن الإبداع حتى الموت، فقدمت كتبًا وقصصًا، وسأقدم جديدًا دائمًا حتى أضيف للتاريخ الإنساني وأثري التراث الأدبي العربي.
ميدل ايست أونلاين