نوافذ للحوار| المسرحي بيتر بروك: ثورات العالم العربي عظيمة (أفينيون (فرنسا) – حبيب سروري)
أفينيون (فرنسا) – حبيب سروري
يُعدّ بيتر بروك أيقونة المسرح الحيّة من دون منازع. فهو واحد من أكبر مخرجي المسرح المعاصر وأهمهم. وُلد في لندن عام ١٩٢٥، درس في جامعة أكسفورد، ومارس التمثيل والإخراج منذ كان في السابعة عشرة من عمره. اشتغل على مسرحيات الرواد من شكسبير إلى تشيكوف، وانفتح على الثقافات الأخرى في الوقت نفسه. «ماهابهارتا» هي إحدى مسرحياته الشهيرة (تدوم ٩ ساعات)، مستوحاة من ملحمة ميثولوجية هندية. ومسرحيته «مؤتمر الطيور» مستوحاة من كتاب «منطق الطير» للصوفي فريد الدين العطار… وقبل أداء المسرحيتين، قاد بيتر بروك فريقه إلى الشرق للتعمّق في ثقافته، وكان أسّس في باريس «المركز الدولي للأبحاث المسرحية» عام ١٩٦٨. أمّا كتابهُ «المساحة الفارغة»، فيُبلور تجربته ونظريته المسرحية التي طوّرت المسرح العالمي المعاصر. يشارك بروك في مهرجان «أفينيون» المسرحي لهذا العام من خلال جلسة نقاش حول فيلم «بيتر بروك يمشي على حبلٍ مشدود»، من إخراج ابنه المخرج السينمائي سيمون بروك. وكان سيمون صوّر خلال ساعات، وفي شكل خفيّ، كواليس مسرح «بوف دو نور» الباريسي حين كان والدُهُ (صاحبُ المسرح) يوجّه تفاعلات ممثلين وفنانين ومشاهدين، أثناء عبور الممثلين على «حبلٍ مشدود» وهمي، يربط قمتين جبليتين خياليتين: يعتبرونه أفراداً أو جماعات في تشكيلات وأوضاع مختلفة، وعلى إيقاعات موسيقية متنوعة!…
التقيتُه في بهو فندقهِ الملتصق بـ «قصر البابوات». وكان هذا الحوار الذي أدهشني فيه المخرج التسعيني حين سمع أسئلتي دفعةً واحدة، وأجاب عنها بترتيبٍ مُدهش (أعترفُ بأنني ما زلتُ مُندهشاً من تدفقه وسنائه أثناء ساعةٍ من حوارٍ لن أنساه!):
> يحاول فيلم «بيتر بروك يمشي على حبل مشدود» أن يُجلي فلسفتكم في المسرح، وطرائق عملكم في إدارته. لكنه أضاف ظاهرة تستحق منكم الشرح: لمدة ساعة ونصف الساعة يرتجف المشاهد وهو يرى ممثلين يسيرون على حبلٍ خياليٍّ مشدود فوق هاوية، فيما يسيرون فوق قطيفة على الأرض…
أولاً، أنا لا أميل إلى استخدام كلمة «فلسفة» كما وردت في سؤالك، لأنني أفضّل أن أتركها للجامعيين. ولا أميل إلى كلمة «طرق العمل»، بل أُفضّل أن أتركها للمهندسين. وفي الكلمتين شيءٌ مغلق، لذا أفضّل كلمة «اتجاهات». واتجاهي في العمل المسرحي ينتمي باختصار إلى نموذج رحلة طيور الشاعر الصوفي فريد الدين العطّار بحثاً عن طائر السيمرغ، بحيث تمرّ الطيور في سبعة أودية، آخرها وادي الفناء في الذات الإلهية. إنّ إثارة ملكة التخييل لدى المشاهدين، وجعلهم يتصوّرون الممثلين يمشون فوق حبل عالٍ مشدود، فيما هم على الأرض، هو الوادي الأول – لا غير – في رحلة الطيور. فالهدف الكبير هو الوصول إلى الوادي السابع: وادي الدهشة الخالصة، حيث ليس غير الدهشة الكليّة التي تأسر المشاهد.
> لعلّك أهمّ من طوّر فكرة المسرح المرتبط بالسياق الثقافي والزمكاني، أو المسرح الديناميكي الحيّ المنفتح على الثقافات: «المسرح الفوري»، وفق تعبيرك. أخبرنا عنه، وعن مفهوم «الأثر» الذي يلزم أن يتركه على المشاهد؟
– يهمّني تركيزك على فكرة «المسرح الفوريّ» لأنّه مرتبط بالعلاقة بين المسرح والحياة. وكلمة «الفوريّ» جوهرية هنا. ومن أجل فهمها أستخدمُ صورة الساعة الرمليّة، استعارةً. فهي تعلّمنا أننا، وكوكبنا الأرض، لسنا أبديين مخلّدين، وأنّ كل حبّة رمل تعبر ثقب الساعة، لها أهميّتها القصوى. وإن أضعناها عبثاً، أضعنا معنى الحياة. وللأسف، يُضيّع الإنسان معظم عمره هباءً منثوراً في أشياء تافهة، بينما يلزم إعطاءُ كلّ لحظة تمرّ، كل حبّة رمل زمنيّ، قيمةً لا نهائية. لذلك، تبرز الحاجة إلى جهاز يشرح لنا كم نهدر حيواتنا عبثاً، ويعلّمنا كيف نعطي اللحظةَ قيمتَها. أو بمعنى آخر، نحن نحتاج إلى ما يُعلّمنا حقيقة التأمّل في اللحظة الحيّة. الصلاة مثلاً تركيزٌ تأمّليٌّ لحظي، لكنّ الصلاة عملٌ فردي. والمسرح عبارة عن نشاط جماعة (حوالى ٧٠٠ شخص في أفضل الأحوال، في مكانٍ مغلق غالباً)، يركّزون ويتأمّلون معاً، يدخلون في «كومينيون»، اجتماع مُقدّس. ويلزم أن يكون هؤلاء من الشرائح الاجتماعيّة كافة، وأن يستلهم مسرحُهم مواضيعَه من الثقافات كلّها.
وعندما يكون المسرح كذلك، وعندما يكون بالنقاء والإخلاص والكثافة والعمق الفني الكافي، وعندما يفقد المشاهدُ فيه حدودَه الشخصية لِيذوب في الآخر، يتحوّل إلى «مسرح فوريّ»، يصير الوجهَ الآخر للحياة. يترك عندها أثراً حيّاً على الإنسان.
مسرح الحياة
> في «ميدان التحرير» في مصر، خرجت الجماهير قبل أسابيع لتمارس «مسرح الحياة» بحثاً عن «أثر» اجتماعي: الحريّة والمدنيّة. كيف يمكن «مسرح الفن» أن يساعد «مسرح الحياة» في تحقيق ذلك الأثر؟
– قبل الإجابة عن المسألة المصرية، علينا أن نتفق على معنى هذا «الأثر». ولنعترف بأننا غير قادرين على تغيير الحياة البشرية كما نريد. منذ قرنين، فشلت المشاريع الماركسية كلها، وكذلك الرأسمالية والتيوقراطية… وصرنا اليوم كمن يعيش نهاية تراجيديّة مسرحيّة. غير أن نهايات التراجيديات لا تدعو المشاهد لليأس، بقدر ما تدعو للتأمل في الواقع وفي الوحدة والدهشة الجماعية، لأنّ وعي المشاهد حينها يمسي أكثر عمقاً وحساسية وتأهبّاً. لذلك، إن لم نستطع تغيير العالم، فنحن نمتلك عبر المسرح، ولساعات قليلة، مجتمعاً صغيراً مثالياً يسمح بتجاوز تراجيدياته. ذلك ما كان يحصل في المدينة الإغريقية عقب التجربة المسرحية: كان الأثينيون مثلاً (أو «الميكروكوسم» الذي يحضر المسرحية) يمتلكون حقيقتهم الجماعية بعد مشاهدة تفاعلات البشر، العلاقات المختلفة، الانتقامات، الفظاعات… يعيشون حينها ما سمّاه الإغريق بذكاء «كاتارسيس»: تنقية المشاعر الجمعية بالكوميديا. المسرح هو إذاً هذه الجزيرة الطوباوية الصغيرة الحيّة التي تفكّر وتحيا في شكل جماعي فوري. ليس هدفه التصوّر المستقبلي الأفلاطوني، ولكن التأمّل الجماعي المباشر. ويساهم في هذه الجزيرة المثالية، كلُّ شخصٍ فوريّاً، (بلونه وطعمه الخاص، بتنوّع ثقافته وشريحته الاجتماعية) في طبخ وجبة جماعية. فيجد نفسه وهو يبحث – بعد المسرحية – عن شيءٍ ما تفجّرت الرغبة في البحث عنه داخل تلك الجزيرة. يُذكّرني ذلك بقصة العبد، في «مؤتمر الطيور»، الذي قضى ليلته مع الأميرة مخدّراً، قبل أن يُرمى عند الفجر في غبار الشارع. وبعدما استيقظ من تخديره، أسرتهُ الحيرة. فقال: «لا أدري ما حدث لي الليلة الماضية، هل كان حلماً أم لا؟ ليس ذلك المهم. والأهم أنني عشتُ تجربة ما. صرتُ أبحث الآن عن شيءٍ ما لا أدري ما هو، وأين هو!». في هذه القصة تلخيصٌ لدورة علاقة الإبداع بالحياة. يلزم أن يكون الإبداع مثل المصعد الميكانيكي الذي كان موجوداً في فنادق أيّام طفولتي، والذي لعلك لا تعرفه، حيث كان هناك شخص يرفع المصعد بحبل يدويّ. يمرّ المصعد على كل طابق في المبنى ثمّ يعود إلى القاع. ويلزم في مصعد الإبداع زيارةُ كل طابق، اكتشافه والتعمق فيه، قبل العودة الى الحياة اليوميّة بأحاسيس ويقظةٍ جديدةٍ حميدة.
تقودني استعارة هذا المصعد إلى سؤالك عن «مسرح ميدان التحرير». عظيمةٌ هي ثورات الشعوب العربية في «مسرح الحياة»، ورفضها للطغاة والحاكمين مدى الحياة، وقد جاءت مثل استجابات لحاجة ملحّة. ولا يكفي ذلك في «مسرح الفن»، بل يجب النظر إلى الأعلى والارتفاع فوق المطالب اليومية المباشرة، كما يلزم الارتقاء الدائم في المصعد الميكانيكي نحو شيءٍ أكثر نقاءً وكثافة، قبل العودة الدوريّة للواقع الاجتماعي بحالةٍ جديدة. وهذا يكون للبحث عن شيءٍ ما، تماماً مثل استعارة العبد في «مؤتمر الطيور».
كان خطاب أوباما في القاهرة مهماً وهو يحاول الارتقاء في المصعد. لكنّه كان سطحيّاً، إذ لم يتوقف عند كل طابق، لم يستوعب معيقاته وآماله، لم يتعمّق به كما يلزم… وكلّ هذا يعود بنا إلى استعارة حبّة الرمل التي يجب التأمل فيها واستيعابها واحترامها. ذلك باختصار ما يبحث عنه المسرح، بالتفاعل مع بقية الأدوات الفنية كالشعر والموسيقي…
أسرار الانسان
> ما هو مشروعكم المسرحي المُقبل؟
– مشروعي المُقبل هو مسرحية ثالثة في سلسلة مسرحيات حول الدماغ البشري. الأولى: «الرجل الذي…» (المستوحاة من عمل عالم العصبونات أوليفييه ساج: «الرجل الذي يعتبر زوجته قبّعة»)، تجرّ المشاهد إلى أسرار وكوكب الدماغ البشري، وإشكالات تواصلات بعض حالاته الغريبة. أمّا المسرحية الثانية: «أنا ظاهرة» فهي مُستوحاة من عمل عالم العصبونات السوفياتي السكندر لوريا، حول شخصية حقيقية، شيريشفيسكي، الذي كان مصاباً بمرض عدم النسيان: لا ينسى حدثاً أو كلاماً سمعه، يحتفظ به في دماغه كـ «ديسك كومبيوتر»، يستطيع ترديده في أية لحظة، وإن كان نصّاً مثل «الكوميديا الإلهية» سمعهُ بلغةٍ لا يفهمها!… تتداخل في شيريشفيسكي، إضافةً إلى كابوس ذاكرته اللانهائية، حالات مرض «السينوستيزي» الذي تختلط فيها الحواس معاً: كل صوت يثير صورة، كل صورة تثير طعماً، رائحة… ومثل مفعول المخدرات، يعيش المصاب بهذا المرض في جنّة عدْن تختلط فيها كل المناظر والأصوات والروائح والمذاقات الجميلة. وهي جحيم مطلق أيضاً.
أمّا المسرحية الثالثة فهي مغامرة جديدة في الاتجاه نفسه. إنها رحلات إلى وادي الدهشة، لفريد الدين العطار في «مؤتمر الطيور»، والذي استهلّت مسرحية «الرجل الذي…» الحديث عنه. ذلك الوادي، وادي الضحك والدموع معاً، هو الهدف الأسمى للتجربة المسرحية.
صحيفة الحياة اللندنية