نوافذ للحوار| جميل عطية إبراهيم: علاقة ناصر بالمثقفين نموذج للميزان والعيون
الكاتب المصري جميل عطية إبراهيم واحد من أبرز الروائيين في العالم العربي، شارف على الثمانين، وما زال يمارس الإبداع، فبعد روايات كثيرة من أبرزها «والبحر ليس بملآن»، «النزول إلى النهر»، ثلاثيته: «1952، أوراق 1954، 1981»، يعكف حاليا على كتابة رواية جديدة عن الثورة المصرية، رغم أنه يستقر في سويسرا منذ مطلع الثمانينات.
حكايات «جميل عطية إبراهيم» لا تنتهي، كان لنا هذا الحوار معه عن مشواره الإبداعي، وبعض آرائه المتعلقة بعالم الأدب.
} دعنا نبدأ المشوار منذ البدايات.. كيف تتذكرها الآن؟
^ أنا من مواليد مصر القديمة، على مقربة من جامع عمرو بن العاص، ثم انتقلت مع العائلة إلى منطقة الجيزة، وجودي في مصر القديمة زودني بخبرات عظيمة، حيث كانت المنطقة هادئة، تسمح لنا باللعب بشكل مريح، والتحقت بمدرسة ابتدائية بمنطقة جزيرة الروضة، وهي منطقة أثرياء، على عكس مصر القديمة، وبدأ وعيي يتفتح على الفروق بين الأغنياء والفقراء، كنا نقنع بقالب من الشيكولاتة كهدية، بينما وجدت في المدرسة أن هناك تلاميذ يهديهم أهلهم ألعابا لم تخطر على بالي، بدأتُ التمييز بين الغنى والفقر، كانت أمي سيدة غير متعلمة، لكنها كانت تمتلك قوانين خاصة في تربيتنا، منها أنه من غير المسموح لي إطلاقا أن أخرج من المنزل من دون حذاء، كنت ألعب مع أقراني بحذائي الكاوتشوك، وكانوا يعترضون لأنهم كانوا جميعهم حفاة، لكن السمة العامة في تلك المنطقة في ذلك الوقت أنه كان هناك قدر كبير من التسامح يظلل المشهد ويحيط بالعلاقات بين البشر، الذي يعرف القراءة والكتابة كان يكتب الخطابات من أجل الآخرين، التي يرسلونها لذويهم، كنا نذهب للجامع جميعا مسلمين ومسيحيين، مع أستاذ يحرص على تعليمنا مبادئ القراءة والكتابة، ونذهب معا أيضا إلى الكنيسة الواقعة في المنطقة، وبها وسائل ترفيه مذهلة بالنسبة لأطفال في مستوانا، كطاولة تنس، كنا نلعب هناك أيضا.
الشاروني وسلامة موسى
} كيف دخلت إلى عالم الأدب؟
^ هناك أسباب عامة، أعتقد أنها متعلقة بجيناتٍ ما داخلي، حيث شدني منذ الطفولة عالم الموسيقى، وتعلمت العزف في البداية مدفوعا بهاجس أنني سأكون موسيقيا، وشدني حديث الأربعاء للدكتور طه حسين، الذي كنت أستمع إليه عبر مذياع جارنا، وهناك أسباب قدرية أهمها أن أبي كان له صديق معروف في عالم الأدب وهو الكاتب الكبير يوسف الشاروني، وكنت أستمع لأبي حينما يتحدث عنه باحترام بالغ؛ ما دفعني للسعي وراء قراءة ما يكتبه، بعدها بدأت المحاولات الأولى، كانت محاولات سطحية، كتبت قصصا في البداية، وكانت إذاعة البي بي سي (النسخة العربية) قد أعلنت وقتها عن مسابقة في القصة القصيرة للشباب، فأرسلت لهم قصة وبعدها بفترة وصلني خطاب يخبرونني فيه أنني كاتب موهوب وأنهم يتمنون لي مستقبلا جيدا في عالم الكتابة شريطة أن أهتم بالدراسة ومعرفة اللغة، كنت في الثالثة عشرة من عمري، تلقى أبي الخطاب، وسخر مني لكونهم لم يمنحوني الجائزة! كنت أضع نصب عيني نماذج من عينة يوسف الشاروني، وسلامة موسى الذي قرأت كتبه في وقت مبكر، حتى أنني التحقت بكلية التجارة، مدفوعا بمقولة لسلامة موسى تربط بين الإبداع والقدرة على فهم الاقتصاد.
} وكيف كانت علاقتك بأبناء جيلك من ناحية والعلاقة بين جيلك والجيل السابق عليه من ناحية أخرى؟
^ العلاقة بالوسط الأدبي بالنسبة لي كانت سلسة ومريحة، نشأت تحت مظلة الجيل، سبقتنا أجيال؛ مصطفى صادق الرافعي، طه حسين، العقاد والمازني وغيرهم، وحينما ظهرت كتاباتنا كجيل الستينيات بدا واضحا أننا لا نقلد، كنا نجد أشكالا وطرائق جديدة في الكتابة، كنا منتشرين في «صوامعنا» الخاصة؛ إبراهيم أصلان مثلا، كان يعيش في منطقة الكيت كات بالقاهرة، استطاع أن يرصد الحياة من مكمنه هناك، نفس الأمر كان مع جمال الغيطاني إذ استهوته القاهرة الفاطمية، وكتب كثيرا عن هذه المنطقة، أما أنا فكنت أحيا في مصر القديمة وكتبت مفهومي للحياة والواقع من حولي، نشرنا قصصنا في مجلة «المجلة» و «الكاتب»، وكانت بمثابة صك اعتراف بنا، فانتبه لنا كاتب كبير مثل يحيى حقي، وكان يدعمنا بشدة، وينشر أعمالنا في مجلته «المجلة»، وهو انتصار كبير بالنسبة لكاتب في هذا التوقيت. اختلفنا مع بعض أبناء الجيل السابق، مثل يوسف السباعي، لم نكن نحب طريقته في الكتابة، ونراه كاتبا ضحلا، وكان يهاجمنا طوال الوقت أيضا، ويحاربنا، حتى أنه كان يسعى لفصلنا من الأماكن التي كنا نعمل بها، مستغلا في هذا منصبه السياسي، الكاتب الكبير الذي كان من أقرب أبناء الجيل السابق إلينا هو نجيب محفوظ، نجيب «بك» محفوظ كان يقربنا من مجلسه في ندوته الأسبوعية، وذكر أكثر من مرة أنه أفاد – شخصيا – من جيل ثمانية وستين، وهو ما أعتبره مجاملة بلا شك.
المثقف والسلطة
} ولدت عام 1937، في ظل سطوع الفكر الشيوعي في العالم، وفي فترة تفتح وعيك كانت فكرة المثقف العضوي تسيطر على الأذهان، كيف ترى علاقة المثقف بمجتمعه، وبالسلطة أيضا؟
^ في المرحلة الأولى لم يكن لدي أفكار واضحة عن هذه القضية، لكن الوعي يتغير بتقدم السن، أنا لم أبدأ الكتابة بشكل احترافي إلا في وقت متأخر، وانقطعت لفترات طويلة، كان وعيي بالأشياء قد تغير، ونظرتي الأولى لعلاقة المثقف بالسلطة وبمجتمعه قد تغيرت أيضا، وأرى أن علاقة عبد الناصر بالمثقفين نموذج واضح لطبيعة هذه العلاقات، بكل مزاياها وعيوبها، كتبت عن عبد الناصر كثيرا في ثلاثيتي (1952، 1954، 1981)، وعن علاقته بالمثقف المصري.
} لماذا كنت تنقطع عن الكتابة كما ذكرت؟
^ لأسباب متعددة؛ شخصية، وحياتية، بدأت أساسا في وقت متأخر من حياتي، رغم اهتمامي الشديد أن أكون كاتبا، كنت أقول لنفسي إنني كاتب، وسأعود يوما ما، كنت أضع في حسباني دائما ألا أكتب إلا ما هو جديد، ألا أعيد تدوير مخلفات الآخرين في رواياتي، كتبت «أصيلة» في الستينيات ولم أنشرها إلا بعدها بأربعة عشر عاما، كانت عن تجربتي في الحياة لفترة في مقتبل حياتي بالمملكة المغربية، انقطعت لعدة سنوات بعد كتابتها، لأنني كنت أحاول التجويد دوما، وأن أصنع مسارات جديدة لنفسي في الكتابة، كانت أولى القصص التي كتبتها «المربع الدائري»، كانت قصة تنم عن هذه المحاولات التي ألزمتني ما لا يلزم، كنت أضغط على نفسي بشدة، حتى أحسست أنني أصطنع، وأن هذا ليس أدبا في الحقيقة.
} كيف تقيّم تجربة الغربة بعد هذا العمر الطويل؟
^ أنا مدين لهذه التجربة بأنها وفرت لي المناخ اللازم لمتابعة الإنتاج الأدبي بشكل جيد، أعيش في سويسرا بشكل متقطع منذ مطلع السبعينيات في القرن الماضي، حتى أقمت فيها بشكل نهائي بعد ذلك بسنوات قليلة، لا مشاكل هناك، بيئة نظيفة تحض على الإبداع، أحيانا يؤلمني الصمت، وأحن إلى صخب القاهرة، وليلها الذي لا ينام، لكن يبقى المناخ هناك محرضا على الكتابة، كتابة التجارب التي أخوضها في بلاد صاخبة كبلادي.
صحيفة السفير اللبنانية