نوافذ للحوار| حمزة عبود: لم أشعر مرّة بالامتلاء (حاوره: اسكندر حبش)
حاوره: اسكندر حبش
«كنت كثيرا لم أكن أحدا»، عنوان الكتاب الجديد للكاتب والشاعر اللبناني حمزة عبود وهو سيرة «في أحوال الطفولة والصبا»، يروي فيه عن تلك الفترة التي عاشها صبيا في مدينة صيدا في خمسينيات القرن الماضي وستينياته. حول الكتاب هذا الحوار.
بين الشعر والنثر، تراوحت تجربتك الكتابية: القصيدة، الرواية، القصة القصيرة، واليوم السيرة الذاتية. لمَ أنت بحاجة إلى كلّ هذه «اللغات» إن جاز التعبير؟
^ أعتقد أن نوع النص (أو طريقة الكتابة) يتعين منذ ولادة فكرة النص في ذهن الكاتب. فإذا كان موضوع النص أو الفكرة التي تتبادر إلى وجدان الشاعر ومخيلته تستدعي لغة استطرادية أو تواصلية، لغة تقوم على الربط بين الحوادث والمواقف، فلا بدّ أن يكون شكل الكتابة نثرا، رواية أو قصة قصيرة. حين فكرت في السيرة كنت أريد تعقب ذلك الصبي الذي كنته ذات يوم علني أقع على ملامح وعلى تكوين حمزة عبود حتى في هذه السنوات. كنت أريد أن أعرف من هو هذا الصبي الذي أورثني هذا القلق وهذا التدخــل في حــوادث وحياة كانت صاخبة في تلك المرحــلة (أواخر الخمسينيات حتى أواسط الستينيات) وهي المرحلة التي تتحدث عنها السيرة.
ولكن حتى شعرك يحمل، في بعض منه، ملامح من هذه السيرة. لِمَ قررت أن تفرد كتابا كاملا ينتمي إلى هذا النوع الكتابي؟
^ في الشعر، يمكن أن نجد أصداء السيرة، ربما في إشارات أو صور عابرة ولكن مؤثرة وفي صميم بنية النص ولكن الشعر لا يتسع للسيرة التي تقتضي نوعا من البحث. فأنا حين لجأت إلى ما يشبه السيرة، كنت أريد أن أتعقب صبيا لا أعرفه تماما كما يحدث في السيرة غالبا. فالسيرة هي تأريخ الذات وتستند غالبا إلى التوثيق.
لم يكن هذا قصدي فأنا كنت كما قلت سابقا، أتعقب صبيا لا أعرفه ولم تكن غاية السيرة توثيق الأمكنة والحوادث إلا باعتبارها مكونا في وجدان الكاتب وتحديد ملامحه. وأعتقد أن هذا ما أعطى الشخصية (الصبي) بُعدا دراميا جعل عددا من الذين تناولوا الكتاب يطلقون عليه سيرة روائية.
الأمكنة
ربما أخالف هذا التعبير لأقول إن المكان يحضر بشكل كبير، حتى يبدو هو البطل وأنت تبدو في مكان ثانوي. هذه قراءتي للكتاب، من هنا يبدو كتابك أقرب إلى «جغرافيا» منه إلى تاريخ، بالرغم من الذاكرة التي تسيره؟
^ لكن الأمكنة هي نحن، هي وجودنا ومن المفيد الاشارة هنا أن المكان لغة من الكون أي الوجود ومن كان بمعنى حدث أو وُجد ولا أظن أنني، في السيرة، كنت أقف على وصف الأمكنة بقدر ما كنت أتبين حدودها وأبعادها من ملامح الصبي، ما الذي أعطته هذه الأمكنة للصبي.
فالأمكنة هنا، ليست حيزا جغرافيا أو حدودا وتضاريس، الأمكنة هي ما يقع في الأمكنة. وهي ما نتخيله عن الأمكنة. وفي التعقيب على سؤالك فيما إذا كانت هي سيرة أم سيرة روائية فإنني لا أهتم للأمر كثيرا ولا أدعي أنني كنت أحاول نصا روائيا. فقط كنت أريد العودة إلى هذه السنوات لاحتفظ بها. تماما كما كان يفعل الإنسان البدائي حين يرسم الطبيعة والكائنات من حوله داخل الكهف ظنّا منه أنه بهذه الطريقة يستطيع الاحتفاظ بها.
وكأنك تطرح في كلامك هــنا ســؤالاً جوهرياً وهو حول: «الذاكرة مقابل النسيان»؟
^ لا أعرف أين قرأت أن النسيان هو جزء من الذاكرة. والحقيقة أنني كنت أحاول أن أحرك صورا بدأت تنطمس في الحياة وخفت أن تزول من ذاكرتي. لم أكن أريد أن أستعيد صور تلك الأمكنة والحوادث والوجوه باعتبارها دفتر ذكريات أو باعتبارها «ألبوما شخصيا، كنت أريد أن أرى كيف تكوّن هذا الشخص صاحب السيرة من «مكونات» لا تزال تحفر في شخصيته وتتمظهر في سلوكه وحياتــه اليــومية. فأنا ما ولت أعيش هذا القلق الدائم حيال واقعي لأنني كنت دائما كما قلت في إشارة في مطلع الكتاب كنت أريد أن أكون أحدا سواي. فأنا لم أشعر مرة بالامتلاء أو بأنني مغتبط تماما بواقعي الشخصي ولا حتى بنص شعري أو قصة كتبتها ذات يوم.
ما سبب هذا النقصان؟
^ أظن أننا حين نصل إلى الظن أننا في الصورة الأكثر اكتمالا سواء على صعيد واقعنا الشخصي أو في نصوصنا حين نصل إلى هذا الظن نكون قد وضعنا حدا للإبداع. كيف تستطيع أن تنتج نصا آخر، تمتلك رؤيا سديدة للعالم إذا كنت تعتقد بأنك وصلت إلى الصورة الأكثر تعبيرا.
ثم اننا نكتب لكي نضفي على العالم صــورة لم تكــن له ونحن نرغب بينما نعيد إنتاج رؤيتنا إلى العالم نعيد انتاج اللغة.
ثمة صــورة أخــرى لصــيدا نجدهــا في كتــابك هذا، تختلف عمّا قرأناه ممن كتبوا عن هذه المديــنة. هل تظــن أن الفــترة التي تحدثــت عنــها كانــت مختلفة أم أن رؤيــتك هي كــذلك. ما أقصده، إلى أي حدّ من التأويل ذهبت إليه خلال الكتابة؟
^ لا أذكر نصا إبداعيا آخر عن صيدا سوى قصيدة صديقي الشاعر حسن عبد الله وبالمناسبة هي من أجمل قصائده -. أعرف أن هناك كتبا كثيرة تناولت صيدا ابتداء من المستشرقين إلى الرحالة وصولا إلى مؤرخين معاصرين من المدينة ومن خارج المدينة، لكن صورة صيدا في هذه الكتب هي صورة تعكس أبعادا تاريخية وجغرافية واجتماعية وثقافية الخ.. في المدينة كان ينبغي إثباتها تأكيدا لموقع صيدا التاريخي. فصيدا هي حاضرة استثنائية منذ ولادة المدن الكنعانية على ساحل المتوسط ولعلها كما يقول سعيد عقل هي الأقدم بين هذه المدن.
صورة صيدا في السيرة تختلف عن ذلك تماما. فأنا حين أتناول معالم صيدا التاريخية والتراثية أتناولها في حضورها الراهن وفي حياتها الراهنة وفي علاقتي بها باعتبارها ملعبا لهذا الصبي وباعتبارها بيتا له في الوقت نفسه. في السيرة لم أكتب ولا أستطيع أن أكتب في كتابات لاحقة صورة لصيدا من موقع حيادي. علاقتي بهذه المدينة تشبه العلاقة الحسية للمتصوفة بموضوعاتهم.
لماذا «كنت كثيرا ولم تكن أحدا»؟
^ قلت إنني لم أكن أعرف تماما الصبي الذي تتعقبه السيرة. كنت أتحدث عن الصور المتعددة التي تمثلها هذا الصبي وأتحدث عن الوجوه التي كان يرغب في أن يكونها. فأنا في السيرة قاسم دبوس في علاقته بالطبيعة وتعلم الحرية، وأنا السيد كاظم ابراهيم في علاقتي بالأدب وتعلم الكتابة وأنا إيلي عبود نجم الكرة الطائرة في ذلك الوقت.
وأنا النجوم الذين عرفتهم في سينما تلك السنوات، أنا عبد الحليم حافظ، حافظ أسراري، وأنا أحمد رمزي المتمرد بلا قضية وأنا كل الكتاب الذين قرأتهم وأنا جبران وأبطال كتبه وأنا المجنون والنبي وأنا الصبي الأعرج في رواية توفيق يوسف عواد وأنا الأعمى في أيام طه حسين.. أنا كل هؤلاء الذين لم أكن أحدا منهم ولكنهم لا يزالون في مخيلتي وفي تقاليد حياتي اليومية وفي رؤيتي إلى هذا العالم.